السفير محمد نعمان جلال* يكتب: في الذكري المئوية للحزب الشيوعي الصيني (١من٢)

وجّه الرئيس عبدالفتاح السيسي رسالة تهنئة إلى الشعب الصيني والحكومة بمناسبة مرور 100 عام على تأسيس الحزب الحاكم في الصين، حيث تأسس الحزب عام ١٩٢١، وأشار الرئيس السيسى فى كلمته إلى أن التجربة الصينية تمثل قصة نجاح، وأن الكثير من الدول تسعى لدراستها والاستفادة منها.

وطلب منى الصديق عاطف عبد الغنى رئيس التحرير أن اكتب مقالا فى هذه المناسبة لتعريف القارىء المصرى بهذه القصة.. قصة الحزب الشيوعى الصينى، فكتبت الآتى:

  1. النشأة والسمات :

يمثل شهر يوليو من كل عام شهر الصيف الشديد، وهو أيضاً شهر العديد من الثورات، وقد انطلق الحزب الشيوعي الصيني في شهر يوليو/ تموز واستطاع خلال تسعين عاماً من نشأته أن ينقل الصين من دولة متخلفة إلى القوة الثانية الاقتصادية في العالم، أو «دولة نامية كبرى» كما يحب الصينيون أن يطلقوا عليها. ولكنها من دون أدنى شك هي دولة كبرى على المستوى العالمي، وهي في مرحلة صعود بسرعة غير مسبوقة في تاريخ الشعوب في العالم قاطبة بهذه السرعة والاستمرارية وبالعملية التراكمية.

النموذج الصيني قام على أربع ركائز مهمة، وهي القيادة، والإيديولوجية، والحزب ، والجيش. وبالطبع الإطار الذي يغلف ذلك كله هو الشعب الصيني الذي يتسم بالجدية في العمل والإخلاص للوطن والانضباط الشديد والطموحات المعتدلة. وفي هذه الأيام تصادف الذكرى المئوية للحزب الشيوعي فإننا نركز عليه دون الركائز الأخرى، ونقدم عرضاً سريعاً لنشأته وتطوره عبر العقود التسعة الماضية، والتحديات التي يواجهها في الفترة المقبلة.

  1. مراحل التطور

المرحلة الاولي   في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين وهوعقد التحدي الأكبر أمام الحزب الشيوعي الصيني الذي نشأ العام 1921 عندما أعلن ذلك المفكر الصيني سكرتير أول الحزب آنذاك تشين شياو دو، ولعل ذلك يرجع إلى عدة إعتبارات:

الأول: إنه العقد الذي يكمل المئة الأولى للحزب، وهي فترة زمنية ليست قصيرة مقارنة بالكثير من الأحزاب في العالم.

الثاني:إنه عقد يتسم بالتغيرات السريعة والمتلاحقة، وهذا يخلق العديد من التحديات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية.

الثالث: إن الصين ذاتها تطورت خلال المائة  عاماً عبر ثلاث مراحل جد مختلفة، مرحلة النضال ضد العدوين الخارجي (الاستعمار الياباني بوجه خاص) والداخلي (الكومنتانج ممثلاً للإقطاع والسيطرة على مقدرات البلاد وحرمان الأغلبية)، وظلت تلك المرحلة ما يقرب من ثلاثين عاماً (1621-1949). 

والمرحلة الثانية ثلاثين عاماً أخرى (1949-1978) أصبح الحزب هو محور نشاط الدولة ومهندس خططها التنموية وأساس قاعدة الحكم.

 والمرحلة الثالثة من 1978 حتى الآن وهي أكثر قليلاً من ثلاثة عقود، حيث دخل الحزب مرحلة تحديات أكثر صعوبة في سعيه لتحقيق أهدافه.

ويمكن القول بأن المرحلة الأولى كانت واضحة في أهدافها وهي مواجهة العدوين الخارجي والداخلي، وواجه الحزب تحديات عاتية وخصوصاً إن معظم عمله اتسم بثلاث سمات هي:

الأولى: إنه عمل سري باعتباره قوة ناشئة تتحدى قوى موجودة على الساحة السياسية، ولديها السلطة السياسية والأدوات القانونية والأدوات القمعية فضلاً عن الأداة الاقتصادية. هذا الحزب الشيوعي الناشئ كان مثله مثل طفل يتحدى عملاقاً، ومن ثم لجأ للعمل السري والانضباط الشديد والاختيار الدقيق لأعضائه.

الثانية: إنه سعى للبحث عن البوصلة الحقيقية لعمله هل هي الإيديولوجية الشيوعية التقليدية، كما عبر عنها ماركس وانجلز وكما طبقها لينين؟ وهل القوة الفاعلة لتحقيق الهدف هي البروليتاريا؟ وهل الهدف  هو الوصول إلى الجنة الموعودة بإزالة الطبقات وتحقيق المساواة التامة في إشباع الحاجات حسب المبدأ الشيوعي التقليدي «من كل قدر طاقته ولكل وفق حاجته»؟

الثالثة: إنه عمل في ظل الظروف الصعبة ومن ثم واجه عملية التغير المستمر أو بالأحرى عملية تطهير صفوفه بصورة مستمرة.

السمات الثلاث (السرية في العمل، البحث عن البوصلة/الإيديولوجية الصحيحة، الحرص على النقاء الإيديولوجي)، وهذه السمات في عمل الحزب أدت للصراع الداخلي المستمر وفقاً لمبدأ التطهير التقليدي عبر النار التي تعبر عن ثلاث صفات: أداة إنارة واسترشاد، وأداة تطهير وتنقية، وأداة طاقة وقوة دفع للتقدم.

تقييم طبيعة ونتائج مراحل تطور الحزب الشيوعي الصيني

هذه السمات الثلاث السابق ذكرها ظلت تعمل بقوة خلال العقود الثلاثة الأولى لحياة الحزب، ونعرض بإيجاز لكل مرحلة:

 المرحلة الأولى عبر فيها قادة الحزب عن نخبة من المثقفين والمفكرين الذين تأثروا بالفكر الشيوعي التقليدي، ومع التطور والانصهار في الصراع برز من بين جماهير الحزب نخبة جديدة عبرت عن امتزاج الفكر التقليدي الشيوعي مع الفكر التقليدي الصيني، مع الظروف المتغيرة للصين. ولهذا تحول الحزب من فلسفة الماركسية اللينينية القائمة على البروليتاريا إلى فلسفة الماركسية اللينينية التي أضيف إليها في الثلاثينيات بصورة أكثر وضوحاً حيث طرح القيادي في الحزب ماوتسي تونج آنذاك المفهوم القائم على الفلاحين بعد أن قدم تقريره المشهور عام 1927 وأحدث انقلاباً داخلياً في فلسفة الحزب وبرز نجمه كقائد صاعد، ثم انطلق في حرب العصابات والمسيرة الكبرى في العام 1935 ليصبح بعدها زعيم الحزب بلا منازع. ثم أطلق فلسفته في الثقافة الجديدة وغيرها من المبادرات وقاد عدة حملات لتطهير الحزب من حين لآخر، وفقاً لظروف الصراع الداخلي من ناحية، والصراع على الساحة السياسية والعسكرية في مواجهة الكومنتانج واليابان من ناحية أخرى. وقد تنوع موقف الحزب من الكومنتانج من الصراع ضده حيناً والتحالف معه حيناً آخر، حتى أمكنه حسم الصراع النهائي لصالحه بعد الحرب الأهلية الأخيرة من 1945-1949 وهروب الكومنتانج إلى جزيرة تايوان.

والمرحلة الثانية من التطور يمكن القول إنها امتدت إلى ثلاثة عقود تقريباً سادتها نفس الروح النضالية الثورية بمفهوم العقود الثلاثة الأولى وهي البحث عن النقاء الإيديولوجي، والقيام بأعمال تطهير متعددة، بلغت ذروتها في الثورة الثقافية البروليتارية العظمى على مدى عقد كامل (1966-1976). وأدت إلى إنهاك صفوف الحزب، وتفكك عراه، وتدهور إقتصاد الدولة، وتراجع سمعتها الدولية.

ورغم أن الفكر الماركسي وخصوصاً الصيني تحدّث عما أسماه المراهقة الفكرية اليسارية حيناً، واليمينية حيناً آخر، إلا أنه مارس هو نفسه مثل هذه المراهقة، وهو في السلطة بأكثر مما مارسها وهو في مرحلة النضال. ولعل دوافع ذلك أن مرحلة السلطة وتحقيق أهدافها والحفاظ عليها كان أكثر صعوبة وتعقيداً من مرحلة النضال في العقود الثلاثة الأولى. فكان الهدف الأول هو استعادة وحدة الصين  في ظل هدفً مراوغً بعد هروب الكومنتانج لتايوان، واستمرار سيطرة بريطانيا العظمى على هونج كونج، وسيطرة البرتغال على مكاو. والهدف الثاني هو تحديث الدولة وقد واجه صعوبات في إختلاف رؤية دولة ثورية ناشئة (الصين) مع دولة ثورية اتجهت نحو الاستقرار (الاتحاد السوفياتي)، الأولى ماتزال تفكر بالمغامرة الخارجية دون دراسة متمعنة للعلاقات الدولية ومخاطرها الناشئة عن تنوع القوة والمصالح بين الدول، والثانية تعطي أولوية لميزان القوى الدولي، ومخاطر المغامرات غير المحسوبة، وخصوصاً عندما تعتمد القوة على السلاح النووي. والهدف الثالث هو الوفاء بالاحتياجات الأساسية للشعب وهو الأمن والنظام، الاستقرار السياسي، والمطالب الجوهرية من سكن ومأكل وملبس وتعليم وثقافة ونحو ذلك.

وكانت هذه المرحلة التي يعيشها الاتحاد السوفياتي في عقد الخمسينيات وخصوصاً بعد موت ستالين ومرحلة تأسيس الدولة، في حين كانت الصين تدخل مرحلة تأسيس دولتها الشيوعية، ومن ثم اختلفت أولويات الدولتين مما أدى إلى الإنشقاق في صفوف الحزبين الشيوعيين الصيني والسوفيتي، ودخلا في مساجلات إيديولوجية تغذيها أساساً عقد الزعامة وطموحاتها من ناحية، وطبيعة النظرة للبيئة الدولية من ناحية ثانية، وإختلاف أولويات الدولتين والحزبين من ناحية ثالثة، وتأثير الجغرافيا السياسية أو الجيوبوليتكس في كل حالة (الاتحاد السوفياتي بيئة أوروبية بتاريخ وفكر وسلوكيات مختلفة عن بيئة الصين الشعبية الشرقية وقيمها وأولوياتها ومصالحها وإطارها الأمني).

الاتحاد السوفياتي كانت أولوياته الأمنية في أوروبا وفي مواجهة الولايات المتحدة بأسلحتها النووية وصواريخها عابرة القارات، في حين الصين كانت أولوياتها الأمنية مواجهة اليابان، وتزعم حركة الثورة العالمية، بمنطق نظرية تطويق الريف العالمي للمدينة العالمية. وهذا دون إغفال الصين أهمية التطور التكنولوجي وخصوصاً المجال النووي، ولذلك فجّرت أول قنبلة نووية لها العام 1964.

المرحلة الثالثة، وهي العقود الثلاثة الأخيرة (1978-2011)، وهي مرحلة بناء ركائز الدولة الوطنية (أو ما أطلق عليه الشيوعيون السوفيت بناء الاشتراكية في وطن واحد) إثر الصراع بين لينين وتروتسكي. مرحلة بناء الاشتراكية في الصين قبل التفكير في الثورة في العالم الثالث (كما حدث في محاولة الانقلاب الفاشل في اندونيسيا العام 1965)، وفي مواقع أخرى، وإن كانت أقل بروزاً عبر انقسام الأحزاب الشيوعية ما بين الفكر الماوي والفكر السوفيتي. هذا الإنقسام عمل لمصلحة السوفيت بإعتبارهم قوة دولية ، ودولةً أكثر تأثيراً ونضجاً في العمل السياسي الحزبي والإقليمي والدولي، ومن ثم أكثر قدرة في التأثير على الساحة الدولية المفتوحة للصراع والتنافس، وهي الساحة العربية والإفريقية والآسيوية وإلى حد ما أميركا اللاتينية والكاريب

السوفيت  والاتجاه الواقعي للسياسة

اتجه الاتحاد السوفياتي نحو الواقعية في السياسة الدولية، بعد أزمة الصواريخ الكوبية العام 1962 وبعد إقامة سور برلين العام 1961 في حين اتجهت الصين للواقعية في السياسة الدولية بعد العام 1978، وإن بدت إرهاصاتها منذ أوائل السبعينيات بالانفتاح على الولايات المتحدة بزيارة كيسنجر السرية للصين، ما أدى إلى حصولها على مقعدها في الأمم المتحدة العام 1971.

واتسمت المرحلة الثالثة هذه بالنسبة للحزب الشيوعي الصيني بخمس سمات أساسية هي:

1 – التغير الجذري في فلسفة الحزب وسياسة الدولة بإطلاق سياسة الانفتاح والإصلاح التي دعا إليها الزعيم دنج سياو بنج العام 1978.

2 – تغير الشعار العملي للحزب إلى شعار «الاشتراكية بخصائص صينية»، كما تغير منهج العمل والإدارة والإنتاج إلى شعار «لا يهم لون القطعة أحمر أو أسود طالما تصطاد الفئران». بعبارة أخرى المهم النتيجة وليس الأداة والوسيلة. وفي السياسة الخارجية انتهجت الصين سياسة خارجية تركز على مفهوم «التنمية والسلام والتعاون»، وليس على مفاهيم نشر الثورة الشيوعية أو دعم الدول النامية من خلال المعونات والمساعدات المجانية. وقام التعاون الدولي على أساس مبدأ آخر وهو «دراسة الجدوى الاقتصادية للمشروعات في الدول النامية أو بالأحرى المبدأ الصيني التقليدي «علمني الصيد بدلاً من أن تعطيني سمكة».

3 – تغير القوى العاملة والمكونة للحزب عبر العقود الثلاثة من التركيز على البرولتياريا والفلاحين، إلى إدخال المثقفين ثم الرأسمالية الوطنية أو بالأحرى رجال الأعمال.

4 – تغير التركيز من الاقتصاد الزراعي والصناعة التقليدية إلى الاهتمام بالصناعات التكنولوجية وصناعة المعرفة.

5 – تحولت الصين من دولة فقيرة إلى دولة نامية كبرى – كما تطلق على نفسها – ولكنها من الناحية العملية أصبحت مصنعاً للعالم ومركزاً للإنتاج العالمي، ومن ناحية أخرى تركزت دبلوماسيتها الخارجية على السعي للحصول من مختلف الدول على المواد الخام الأولية اللازمة للصناعة مثل الحديد والرخام والمعادن المختلفة، إلى موارد الطاقة من النفط والغاز. وأصبحت الصين منافساً رئيسياً في السوق الدولية عبر القارات ومع مختلف الدول وفي مختلف المناطق الجغرافية.

وترتب على ما سبق خمس ظواهر مهمة:

الأولى: تراجع المفهوم الإيديولوجي لمصلحة مفهوم المنفعة المتبادلة.

الثانية: الحرص الشديد على عدم التورط في أية صراعات خارج أرض الوطن ونشر مفهوم التناغم داخلياً وخارجياً.

الثالثة: الانطلاق في الاستثمار في الخارج لتنويع محافظها الاستثمارية ما بين الدول المتقدمة مثل الولايات المتحدة وأوروبا والدول النامية.

الرابعة: ارتفاع مستوى المواطن الصيني اقتصادياً وتحقيق حاجاته الأساسية بعد أن كانت الصين تعيش مرحلة حد الكفاف الاقتصادي منذ وصول الحزب للسلطة حتى العام 1978، وكانت تواجه المجاعات وخصوصاً في الخمسينيات والستينيات حتى أوائل السبعينيات.

الخامسة: تحقيق إصلاح اقتصادي واجتماعي وإلى حد ما ثقافي مع الحفاظ على الدور القيادي للحزب في القرار السياسي.

ولقد أدى تطور فلسفة الحزب وإدخال عناصر جديدة فكرياً واجتماعياً في دستوره إلى بروز نوع ما من التعددية الفكرية والمنهجية والسلوكية في الحزب ما بين الجناح المحافظ والجناح الليبرالي الداعي لمزيد من الانفتاح. ولكن بقيت الأسس النظامية والدور المحوري للحزب في الدولة وإن تراجع ذكر اسمه كثيراً، وخفت شعاراته التقليدية. وهذا طرح التساؤل عن دور الحزب في المستقبل، بل التساؤل الأعمق ماذا بقي من الفلسفة والفكر الشيوعي في الصين الجديدة؟ولعل ذلك ما دفع قيادات الحزب إلى القيام بحملات من حين لآخر للترويج للحزب ودوره المحوري. وهو في الحقيقة تحول إلى حزب حاكم يقود شتى مجالات الإدارة، ويسيطر على مفاصل القرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي، ولكن من خلال المنهج المرن الذي يضع القواعد الرئيسية ويعين كبار المسئولين في مواقع الإدارة ويترك للقوى الجديدة الصاعدة حرية الحركة والتنافس والإنجاز.

………………………………………….

* الكاتب: مساعد وزير الخارجية وسفير مصر الأسبق فى الصين.

زر الذهاب إلى الأعلى