السفير محمد نعمان جلال يكتب: في الذكري المئوية للحزب الشيوعي الصيني (الجزء الثاني)

أشرنا فى الجزء الأول من هذع الدراسة إلى أن الرئيس عبدالفتاح السيسي قد وجّه رسالة تهنئة إلى الشعب الصيني والحكومة بمناسبة مرور 100 عام على تأسيس الحزب الحاكم في الصين، حيث تأسس الحزب عام ١٩٢١، وأشار الرئيس السيسى فى كلمته إلى أن التجربة الصينية تمثل قصة نجاح، وأن الكثير من الدول تسعى لدراستها والاستفادة منها.
وتناولنا فى الجزء الأول نشأة وسمات الحزب الشيوعى، ومراحل تطوره، وفى هذا الجزء نستكمل ما بدأناه.


التحديات الكبرى وآفاق المستقبل (1)
يمكن أن نطرح التحديات التي يواجهها الحزب الشيوعي الصيني في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، في عدة محاور: تحدي التجديد الفكري، الأقليات القومية، تحدي الشباب، النمو الاقتصادي، والدور الدولي للصين في القرن الجديد.
التحدي الأول: هو تحدي التجديد الفكري، لقد أشرت إلى إدخال الحزب عدة أفكار جديدة في عهد قيادة دنج سياو بنج ثم في عهد جيانج تزمين، وأخيراً في عهد خوجنتاو. ولكن هذه الأفكار كانت ذات صيغة عملية تجاوبت مع متطلبات مرحلة النمو الاقتصادي. ولكن التجديد الذي يمثل تحدياً هو ضرورة إعادة النظر في فلسفة الحزب الشيوعي وأسسها. وفي تقديري أن هذا حدث إلى حد كبير، ولكن بأسلوب عملي وليس بأسلوب فلسفي، فعل سبيل المثال، إن طرح مفهوم «الاشتراكية بخصائص صينية» ويمكن القول عملياً بأنه مثل طرح مفهوم «الرأسمالية بخصائص صينية»، أو ما أطلق عليه دعاة الرأسمالية الجديدة في منتصف القرن العشرين بأنه «الرأسمالية الذكية». ويبقى السؤال هل المنهج العملي هو الذي يقود التطور أم المنهج الفلسفي الأيديولوجي الذي عبر عنه كارل ماركس وانجلز بل وحتى ذلك الذي عبر عنه هيغل في مفهوم الديالكتيك في الفلسفة الألمانية، والتي أدت إلى نشأة الوطنية الألمانية. والسؤال هل نحن أمام صورة جديدة من الوطنية الصينية؟ وما هي خصائصها؟ وما هو دور الحزب الشيوعي في هذا المجال؟.

اقرأ أيضا.. السفير محمد نعمان جلال* يكتب: في الذكري المئوية للحزب الشيوعي الصيني (١من٢)


التحدي الثاني: هو تحدي الأقليات القومية وخاصة في التبت وسينكيانج ومنغوليا الداخلية، باعتبارها أكبر الأقليات في الصين ومناطقها حدودية في البر الصيني Mainland وتتفاعل مع دول مجاورة لها، وما مدى تجاوب الحزب مع مطالب هذه الأقليات المشروعة بما يحقق لها طموحاتها دون أن يؤثر في الوحدة الإقليمية للصين؟ بعبارة أخرى هل يمكن للحزب الشيوعي الصيني أن يطرح في القرن الحادي والعشرين نظرية جديدة للتعامل مع الأقليات القومية على غرار نظرية دنج سياو بنج في التعامل مع هونغ كونغ ومكاو؟ هل يمكن أن يعطي تلك الأقليات القومية مزيداً من الحكم الذاتي الحقيقي في إطار الدولة الواحدة؟.


التحدي الثالث: هو تحدي الشباب الذين يمثلون الأغلبية في المجتمع الصيني المعاصر، وهم أغلبية حققت تقدماً علمياً، وبعضاً من الرفاهية الاقتصادية والمعيشية ولم يعيشوا مرحلة النضال وقسوة الحياة، ولم يعاصروا حملات الحزب عبر العقود الست السابقة. السؤال ما هو دور هذا الشباب في فلسفة الحزب في المرحلة القادمة؟ إنني أدرك بأن أحد ركائز التقدم الاقتصادي الذي أطلقه دنج سياو بنج، كان تغيير القيادات، وإعطاء الشباب دوراً أكبر في الإدارة، ولكن السؤال الآن في ظل ثورات الشباب في العالم وخاصة في الشرق الأوسط، وكان لذلك إرهاصاته في الصين العام 1989، هل يعيد الحزب النظرة نحو الشباب وتطلعاته السياسية نحو مزيد من الليبرالية السياسية؟ لقد استفسر مني كثير من الباحثين الصينيين في بعض المؤتمرات التي حضرتها مؤخراً عن ثورات العالم العربي أو انتفاضاته بما يوحي إلى وجود قلق صيني من احتمالات امتداد ذلك لمناطق أخرى من العالم ربما تشمل الصين.


التحدي الرابع: تحدي النمو الاقتصادي هذا التحدي يمكن أن نطلق عليه التحدي المراوغ Evasive بمعنى أن النمو الاقتصادي حقق تقدماً كبيراً، وزيادة في الإنتاج، ولكنه خلق مشاكل جديدة بظهور طبقة من الأغنياء بل المليونيرات في الصين مما أوجد فوارق ضخمة بين الطبقات، وهو ما يتعارض تماماً مع الفلسفة الشيوعية، بل إن هذه الفوارق برزت أيضاً بين أقاليم الصين بعضها بعضاً. وهناك ظواهر اجتماعية جديدة ليست بالضخامة، ولكنها تشوه صورة الصين والحزب الشيوعي، ومن تلك الظواهر انتشار الفساد، والمخدرات، والدعارة والتسول في الطرقات، وبالقرب من محطات المترو والقطارات والسيارات والفنادق. لقد قضت الصين الشيوعية على تلك الظواهر الاجتماعية السيئة، ولكنها عادت مجدداً رغم محدوديتها فهي تشوه صورة الإنجاز والمعجزة الصينية العظيمة
العقيدة العسكرية للجيش الصيني: ودروس للوطن العربي

لقد نشأ جيش التحرير الشعبي في الصين العام 1921 في ظل عقيدة عسكرية لمواجهة قوة كبرى تحتل البلاد، وهي اليابان، وقوة قوية محلية هي قوة الكومنتانج، أي بعبارة أخرى الهدف الاستراتيجي الرئيسي هو تحرير الجبهتين الخارجية والداخلية، وأثر ذلك في عقيدته العسكرية التي اعتمدت ثلاث ركائز:


الأولى: إن العدو مزدوج، ولابد من قتاله بأسلوب متنوع، فليس هناك عدو محدد، وإنما هناك عدو متغير، ومن هنا فإن أسلوب القتال اعتمد حرب العصابات، أو الكر والفر.
الثانية: إن العدو له تحصينات قوية، ومن ثم فلابد من حصن أقوى لمواجهته، وهو الانخراط في صفوف جماهير الشعب الصيني لتحميه.
الثالثة: إنه لا يملك الأسلحة الحديثة لمواجهة الخصوم، ومن ثم فلابد من الاعتماد على أساليب الحرب الصينية القديمة، ومن هنا كانت قراءات ماوتسي تونج وزملائه في كتب العسكرية الصينية القديمة، وخصوصاً كتاب «فن الحرب» للمفكر الصيني الاستراتيجي صون تزو Sun Tzu حتى يفاجأ العدو بما لا يتوقعه.

واستطاع جيش التحرير الشعبي أن يحقق معجزة في دحر العدوين الخارجي والداخلي، وأن يحقق المعجزة الصينية الأولى، معتمداً على خمسة مبادئ:


المبدأ الأول: إن الجيش مرتبط بالشعب، يعيش بين صفوفه، ويعتمد عليه في غذائه وفي حمايته، وهو في الوقت نفسه يمارس مختلف المهن، فضلاً عن القتال.
المبدأ الثاني: إن الجيش خاضع للحزب في إطار الايديولوجية السياسية للحزب التي واجهت تغيرات وأعمال التطهير عبر مسيرة النضال لما يقرب من ثلاثة عقود، ومن ثم تعرض الجيش بدوره لما تعرض له الحزب من تعديلات في فلسفته وقياداته بدرجات متفاوتة، وفقاً لظروف العمل الثوري من 1921 – 1949.
المبدأ الثالث: إن الحزب ليست لديه دولة يعتمد عليها، ومن ثم فعليه تطوير أدوات ومعدات القتال وخصوصاً القتال المتحرك.
المبدأ الرابع: الاعتماد على قوة الجماهير، أي القوة العددية لمواجهة العدو المتقدم في فنون القتال ومعداته، وظل الأمر كذلك حتى بعد قيام النظام الشيوعي الصيني، بل استخدم بكفاءة عالية في حرب كوريا 1950 – 1953.
المبدأ الخامس: التركيز على البر الصيني Main Land وتحريره من دون التفكير في الخروج عن إطاره الجغرافي القاري.
هذه المبادئ والأهداف كان لابد لها أن تتغير وتتطور بعد قيام النظام الشيوعي، وبدء بناء الدولة الحديثة العام 1949 وتقدمها المذهل بعد مرحلة الإصلاح والانفتاح. وهو تقدم لم يقتصر على التنمية المدنية بل أيضاً على القوة العسكرية في شتى مجالاتها البحرية والجوية والبرية والفضاء والتكنولوجيا والصواريخ والأقمار الاصطناعية المدنية والعسكرية على حد سواء.
لقد تحولت العقيدة القتالية الصينية إلى قوة التكنولوجيا والتدريب المهني والسياسي المتواصل والرصد العسكري لقوة الأعداء والمنافسين بل والأصدقاء بصورة مستمرة، والعمل على تحقيق الأمن القومي الصيني من هذا المنظور الاستراتيجي.
كما اعتمد الجيش الصيني على تنويع مصادر السلاح، فضلاً عن تطوير قدراته الذاتية بصورة أذهلت الخصوم. ولكن بقيت ثلاثة عناصر مهمة من العقيدة القتالية الصينية التقليدية:


أولها: الاعتماد على الدفاع وليس الهجوم، مع الاستمرار في الاستعداد للهجوم إذا لزم الأمر.
ثانيها: استمرار خضوع الجيش للحزب، واستمرار تفاعله مع الشعب في حدود العقيدة الايديولوجية للحزب وفلسفته المتطورة.
ثالثها: التركيز على الأراضي الصينية، وليس الانطلاق أو التوسع أو القتال خارجها.
ولهذا لا نجد جندياً صينياً خارج الأراضي الصينية ماعدا استثناءين:
الأول: المشاركة المحدودة في بعض عمليات حفظ السلام في إطار الأمم المتحدة.
الثاني: الخروج بالأسطول الصيني إلى المحيطات، والمشاركة في أعمال مكافحة القرصنة، كما في منطقة المحيط الهندي وبحر العرب منذ مارس/ آذار 2010.

ولقد اعتادت الصين في السنوات الأخيرة أن تصدر من حين لآخر كتاباً أبيض يشرح البيئة الأمنية المحيطة بها، ويحلّل وضع الصين، وتطورها الدفاعي وعقيدتها العسكرية وذلك كله تماشياً مع سياسة التحديثات الأربعة The Four Modernizations التي طرحتها الصين منذ بداية عهد الإصلاح والانفتاح. ومن هذه التحديثات تحديث القوات المسلحة. ويعد الكتاب الأبيض الأخير الذي أصدرته الصين في أبريل/ نيسان 2011، هو أحدث ما صدر من الكتب البيضاء، ويحلل البيئة الأمنية خلال العام 2010، وينقسم إلى عشرة فصول تتناول: الوضع الأمني – سياسة الدفاع الوطني – تحديث جيش التحرير الشعبي – انتشار القوات المسلحة – تعبئة قوات الدفاع الوطني وبناء قوة الاحتياط – النظام القانوني العسكري – العلوم والتكنولوجيا والصناعة للدفاع الوطني – نفقات الدفاع – بناء الثقة العسكرية – ضبط التسلح ونزع السلاح.


وللاستفادة من التجربة الصينية بالنسبة للوطن العربي نسوق عدداً من الملاحظات العامة التي توضح إلى أي مدى تطوّر مفهوم الدفاع الصيني والقوات المسلحة، ودور جيش التحرير الصيني:


الملاحظة الأولى: إن العقيدة القتالية الرئيسة للجيش الصيني ذات شقين، هي عقيدة التحرير عبر الدفاع وبناء عناصر القوة الشاملة، بمعنى أن العقيدة تقوم على أن أراضي الصين لم يتم تحريرها بصورة كاملة بعد والشق الثاني هو الالتحام مع الشعب وحماية مكاسبه.


الملاحظة الثانية: تتعلق بتطوير أفرع القوات المسلحة الصينية لاختلاف ظروف العصر وتحدياته واختلاف طبيعة البيئة الأمنية واختلاف أولويات الدفاع الصيني. نقول إن بيئة الأمن الوطني الصيني في القرن الحادي والعشرين اختلفت جوهرياً عن تلك التي سادت في القرن العشرين، حيث تحولت الصين إلى قوة اقتصادية عملاقة وحققت تطوراً صناعياً وتكنولوجياً. هذا كله أثر في مفهوم وجغرافية بيئة الأمن الصيني، ومن هنا الاهتمام بحرية الملاحة في المياه الدولية وأعالي البحار، والاهتمام بأمن المضايق، والاهتمام بمقاومة القرصنة وأثر ذلك كله في تطوير أفرع القوات المسلحة ودخولها مجالات الحروب الإلكترونية وحروب الفضاء والغواصات النووية وحاملات الطائرات ونحو ذلك.


الملاحظة الثالثة: ترتبط بالتطور العسكري الصيني والتلاؤم مع البيئة الدولية المتغيرات. فعندما تكوّن جيش التحرير الشعبي العام 1921، كان الانقسام الدولي ما بين القوى الاستعمارية والقوى التحررية في العلاقات الدولية بعد الحرب العالمية الأولى، وبعد الحرب العالمية الثانية ساد البيئة الدولية الانقسام بين الكتلتين الكبيرتين الشيوعية والرأسمالية، وبرزت ظاهرة حركات التحرر الوطني في العالم الثالث. اليوم بعد سقوط الاتحاد السوفياتي والكتلة الاشتراكية في أوروبا الشرقية، وفي كثير من دول العالم الثالث، ساد الاستقطاب الأحادي الجانب والهيمنة الأميركية لعقدين من الزمان.


الوضع الأمني في الوطن العربي سواء في داخله أو في علاقاته مع القوى الإقليمية المحيطة به أو في تطوره التكنولوجي والعسكري أو في التحديات المتربصة به، كل هذا يستدعي إعادة تقييم للعقيدة العسكرية العربية بما يتلاءم مع المستجدات الدولية. ولقد استمرت العقيدة القتالية العربية في المحافظة على طابعها الدفاعي، ولكن لم تطوّر بالقدر الكافي التصنيع العسكري العربي ولا مصادر الحصول على السلاح المتقدم، وهذا ما ينبغي تداركه في هذه المرحلة حتى لا تصبح بل تظل الإرادة السياسية والعقيدة العسكرية العربية لعلاقات تقليدية أصبحت موضع تساؤل من العديد من المثقفين بل والحكام في ضوء تغيرها المستمر وفقاً لمصالحها.
ولكن الآن ينبغي على القوات المسلحة للدول العربية أن تعمل من أجل الحفاظ على دورها الوطني التقليدي وعلى عقيدتها القتالية لتحقيق أربعة أمور وهي:
الأول عدم بقاء القيادات العسكرية في مواقعها لفترة أطول من اللازم لأن هذا يؤثر على الفكر العسكري والسلوك العسكري والتدريب والقدرة القتالية.
الثاني تجنب الانسياق مع عواطف بعض الجماهير المعادية لهذه الدولة أو تلك سواء في الإطار العربي أو في الإطار الإقليمي، وإنما تفكر من منطلق المصلحة العربية القومية بعيداً عن فكر بعض السياسيين ذوي النزعة العقائدية التي لا تتناسب مع متطلبات العصر ولا تفهم معنى الأمن القومي ومستلزماته من بناء القوة الشاملة والابتعاد عن أية مغامرات غير محسوبة.
الثالث ضرورة تطوير حقيقي للقدرات الصناعية العسكرية في مختلف المجالات كما يحدث في الصين أو الهند أو باكستان، فالصناعة التكنولوجية العسكرية هي قوة دافعة وقاطرة للتطور التكنولوجي للدولة.
الرابع تطوير مراكز الأبحاث الاستراتيجية تطويراً نوعياً وأنا أعرف أن هناك مراكز استراتيجية في بعض الدول العربية ولكنها تحتاج إلى ثلاثة أمور هي رفع كفاءة الباحثين بالمزاوجة بين الفكر العسكري والفكر المدني، والارتباط مع الفكر العملي العسكري، والاستفادة من خبرات المراكز الدولية المشابهة

زر الذهاب إلى الأعلى