د. ناجح إبراهيم يكتب: هابيل وقابيل.. والإدمان
منذ أن ارتكبت جريمة القتل الأولى على الأرض فى تاريخ البشرية، و«قتل أشقاها أتقاها»، كما يقول الناس، ومأساة هابيل وقابيل تتكرر كل يوم، يقتل الأخ أخاه، بدافع شيطانى يصور له الفوز بالغنيمة، ولا يقدر الجانى حجم الشقاء الذى سيوقع فيه نفسه جراء جرمه الشنيع، والذى غالبا ما يقدم عليه وهو فى غير حالته الطبيعية، وفى المقال التالى يتتبع الدكتور ناجح إبراهيم، حالة تختزل ظاهرة، والظاهرة هى إدمان المخدرات، أما الحالة فهى اللجؤ إلى أفعال البلطجة والإجرام للحصول عليها وبأى ثمن من المدمن، ويورد د. ناجح المآل الذى يؤول إليه، مثل هذه الحالات، فى مقاله المنشور بصحيفة “الوطن” وهذا نصه:
تخرّج فى «زراعة الأزهر»، أحبّ القرآن وعشق ترتيله، كان إماماً معروفاً فى التراويح والتهجد، تعلَّم الجدية منذ طفولته، فقد وُلد يتيماً، لم يرَ والده ولكنه أحبه، وكذلك والدته التى تعبت وأعطت ولم تستبقِ شيئاً.
ما اعتمر مرة إلا واعتمر لوالديه.
نشأ يتيماً، فعشق اليتامى والفقراء، فما ترك يتيماً ولا مسكيناً ولا أرملة ولا معوقاً من جيرانه وأهل قريته إلا وقام عليه وبذل له المعروف، وخاصة بعد أن توسعت تجارته، اعتبرهم جميعاً أولاده، وخاصة بعدما تأكد من حرمانه من الذرية، فرّغ كل عاطفته فيهم، بثهم حبه وحنانه ورحمته مع أمواله، لم يكتفِ بنفسه فى صنع الخير والبر، بل طوّر منظومة ثابتة للعمل الخيرى فى قريته.
بعد موته اكتشف الجميع أن ما خفى من عطائه كان أكبر مما ظهر، وجد أن فى وقته سعة، وشوقه للقرآن عظيم، فقال لنفسه: كل الأطفال عيالى، فالخلق كلهم عيال الله، ولعل هؤلاء ينفعوننى أكثر من أولادى.
أعطى القرآن وتلاميذه الصغار جُلّ وقته، تفرّغ للكتاب فحصد أعظم النتائج، حيث نافس تلاميذه على المراكز الأولى فى حفظ كتاب الله على مستوى الجمهورية، لم يدع وقتاً للشيطان ليتسلل إلى نفسه أو يوسوس إليه بالحرمان من الإنجاب أو صعوبات حياته الأولى، سار بين أهل قريته بالإحسان والخُلق الكريم فحاز القبول لديهم.
فى المقابل كان هناك شاب مثله تخرّج فى كلية الزراعة، وينحدر من أسرة طيبة، فوالده مدرس، ولكنه وللأسف أدمن المخدرات منذ صغره، ومعها معاكسة الفتيات، لم يترك نوعاً من المخدرات إلا وتعاطاه إلا الهيروين.
ومع كثرة تعرضه للفتيات وبداياته فى البلطجة قام الأهالى بشكواه إلى الشرطة التى قامت بالقبض عليه عدة مرات، يمكث فى السجن فترة بسيطة ثم يخرج لخوف الناس من الشهادة عليه وخوف الآخرين من إرسال بناتهم إلى القسم خشية من بطشه وقلقاً على سمعة بناتهم.
كان يخرج ويدخل، كان يعتدى على أسرته ويشتم والديه، ويتعدى على شقيقته، مات والده كمداً، ضرب خاله بسكين، وخاله الآخر بطوبة فشجّ رأسه، تعدّى عليهم جميعاً لأنهم أرادوا تقويمه وإصلاحه، لم يجدوا بداً من مغادرة المنزل والقرية كلها بعد أن قام بحرق المنزل، لم يعد لهم شىء يشدهم إلى موطنهم الأصلى، تحوّل بيتهم العامر إلى خراب، يجلس صاحبنا المدمن أمامه يومياً يحتسى أنواع الخمور تارة والحشيش أخرى والبرشام ثالثة، كان لا يترك المطواة، هى رفيقته الدائمة التى تجعل الآخرين يُخرجون الإتاوة دون نقاش.
يمر على المحلات كل يوم، فهذا يعطيه عشرة جنيهات أو عشرين جنيها، إلا الشيخ حلمى عبدالباقى، حامل القرآن وصانع الخير وخريج زراعة الأزهر، كان يرى حرمة إعطائه الأموال، فهذا أكل لأموال الناس بالباطل، ورغم ذلك يعطف عليه قائلاً لصاحب المطعم: أطعمه وسأحاسبك، كان يقول للتجار الآخرين: كيف ينفق أموالنا فى شرب المخدرات، إذا أراد طعاماً أو ملابس أو علاجاً سنحضره له، أما ما سوى ذلك فلا.
كانت هيبة حلمى ولحيته مع قوة بدنه تجعله لا يتجاسر على طلب الإتاوة منه أو أمامه، كل عدة أيام ينقذ منه تاجراً، أو شاباً صغيراً، أو طفلاً يسرح ببضاعة ليساعد أمه الأرملة، الجميع يقول لنفسه: هذه بضعة جنيهات نتقى بها الشر، وندفع عنا الغوائل، ونعتبرها صدقة.
هكذا مضى الحال فى قرية عمر مكرم بمدينة بدر، إلى أن أضمر البلطجى إزاحة كابوس الشيخ حلمى من طريقه، فكلما ذهب لطلب إتاوة وجده يغلق أبوابها عليه، هو لا يريد طعاماً، هو يريد مالاً يفعل به ما يشاء، فحسابه فى البريد يتضخم يوماً بعد يوم، والمخدرات غالية، وجاهه سيسقط إن فرّط فى هيبته.
عزم على قتل الشيخ حلمى، رآه يمنع التجار من منح الإتاوة، طعنه أربع طعنات فى قلبه وصدره، ترنح بعدها حامل القرآن ولفظ أنفاسه الأخيرة مبتهجاً أن الله منحه الشهادة على يد الوغد، وتاركاً أجمل ذكرى وسيرة فى قريته التى عبّر بعض أهلها عن المأساة قائلاً: «قتل أشقاها أتقاها»، أو «قُتل من لا يستحق الموت على يد من لا يستحق الحياة»، ولتحمل لنا الحياة مأساة أخرى من مآسى الإدمان، ففى كل يوم يمر علىَّ أجد ضحايا الإدمان فى كل مكان، فكل زوجة مطلقة أسألها: يا ابنتى لماذا لا تعودين إلى زوجك؟ فترد مع أمها: لا ينفع؟ لماذا؟ لأنه مدمن، لا ينفق ويضربنى دائماً ويريدنى أن أنفق على البيت ولا يعمل، استحضرت كلمات بابا ضياء وعبدالوهاب مطاوع منذ عشرات السنين، كانت خلاصة تجاربهم ومعها خلاصة تجربتى: لا تزوِّج ابنتك بخيلاً أو مدمناً حتى لو كان آخر رجل فى العالم.
لقد نجحت الدولة الآن فى محاربة البلطجة، وخاصة بالأسلحة النارية، ولكنها لم تنجح فى محاربة المخدرات، فهى فى كل شارع، فقد جاءنى شاب مع زوجته يشكو من العقم وحيواناته المنوية لا تتحرك إلا قليلاً، فقلت له: هل تتعاطى المخدرات؟ قال: نعم، وكل يوم، ومنذ أن كنت فى العاشرة وشقيقى الأكبر سائق اللودر علمنى المخدرات وقيادة اللودر، وكل يوم نأخذ التامول صباحاً لكى نفيق للعمل، والحشيش بالليل لكى ننام بمزاج رائق، كل ذلك أمام زوجته الشابة دون أدنى خجل، حتى ظننت أنها تشاركهما.
أما طائفة الصنايعية وسائقى التوك التوك، فقد ضربتهم هذه الآفة فى مقتل، وقد أحسنت الدولة بتشريعها الجديد الذى يقرر فصل أى موظف يثبت تعاطيه للمخدرات فصلاً نهائياً، فى الستينات والسبعينات كان معظم موظفى الدولة يدمنون الحشيش تقريباً، وكانت لهم مجالسهم المعروفة وكانوا لا يعتبرونه عاراً، وكنت أعرف بعض السيدات من أوساط مختلفة بدءاً من الريف وحتى أرقى الأوساط يتعاطون الحشيش مع أزواجهم.
سلام على الشهداء، والصالحين والمصلحين، ودعاء بالعافية والتوبة لكل العاصين.