مرض الرجال الذى أصاب وجدان زينب

كتبت: مى رشدي صالح


التردد مرض من الأمراض التي قد لا يؤبه بها ولكنه موجود، وهو يصيب الإنسان بأفة بالغة في حياته فيشل عقله ويتركه فريسة للألم والخجل من ضعفه، ومن نفسه حين يخسر كل موقف يتطلب منه ردا حاسما وسريعا.
منذ أسبوع جاءت زينب – وهى أمرأة أربعينية العمر – إلى المحكمة تطلب الطلاق وتشتكي من حالة نفسية غريبة سببها المعاناة الشديدة في التعامل مع زوجها المتردد حتي في علاقته الخاصة بها، فما بالك بتفاصيل عشرين عاما بينهما بكل تفاصيل الحياة، التى اقتصرت فيها في بيت الزوجية وندرت فيها أن تمر ببيت العائلة المهجور خاصة بعد موت والديها .
الزوجة تعاملت بصبر وأمل مع هذا الزوج أملا في تحسن الأحوال ولكن بمرور الوقت وتعقد الظروف أصيبت بحالة من الهم والإحباط الشديد والحنق أشد عليه فأصبح الجميل الرحب أضيق في عينيها من كفة الحابل .
” تخيل يا سيدي اتفه الأشياء وأبسطها لا يستطيع أن يتخذ فيها قرارا وإذا اتخذه غيره مرارا وتكرارا، واليوم كله يمر دون أن ينفذ قرارا واحدا دون هياج ومداورة لشدة توتره وكله بسبب التردد .
لو لم يكن زواجنا زواج صالونات ولو لم تعجل والدته بهذه الزيجة ما أظن أنه كان أبدا لهذ الزواج أن يتم، أنه يزداد سوءا كلما تقدم به العمر وكلما تشعبت من حوله الأحداث .
” وهل الطلاق يصلحه ؟”
” لا شئ يصلح ما فسد بدون تفاصيل.. أصر علي الطلاق “
وقد كان، حصلت زينب علي الطلاق وعادت إلي بيت العائلة القديم في الشارع الجديد .
طبعا كل شئ تغير منذ تركت زينب البيت – الشارع أصبح لا يطاق – العمائر الصغيرة والمنخفضة انقلبت إلي شاهقات متلاصقة فوق العشرة طوابق وابتلعت (حرمة الجار) وكل شبر حولها وتضخمت بواباتها وارتفعت مداخلها وتعددت لافتات السكان علي أبوابها وفي واجهاتها، ففي البناية الواحدة يسكن قاض شرعي، ولواء متقاعد، ومدرس ثانوي يعمل في الخليج، وصاحبة بوتيك في المهندسين، ومقاول حديد ثقيل الجيب يتردد علي زوجة ثانية، أو ثالثة، وفي الواجهة صالون حلاقة ومطعم عراقي لبيع المخبوزات العراقية، ومحال مغلقة تحت اأيدي السماسرة، وأمام العمائر عاطلون في عداد وظيفة (منادي) ، ومتنطعون علي النواصي يحلقون نواصي رؤوسهم تشبها بالديوك، حتي البوابين أصبحوا مستوردين من الأفارقة السود.
أما المقاهي وخانات الإنترنت فهي الموضة في الشارع الجديد، ولا تغلق تلفازاتها أربعا وعشرين ساعة، وكيف ومئات الفضائيات تفور بكل ما يخطر علي بال إنسان علم كان أو حلم أو ” المحرمات أياها ” في الغالب المقاهي تعرض أحلاما تطير مع دخان المعسل إلى رئة كل ساكن يختنق أصلاً بعادم السيارات أو سحابة الدخان الأسود والعلم علي المقاهى مبهم في عقول تغيب مع الكيف هنا وهناك آخر الليل .
والموضة في الشارع الجديد أن يتحرك زبائن الليل وآخره طولاً وعرضاً وعليهم سحنة واحدة وتتشابه مأربهم ولا يغادرون الملاهي ولا المقاهي إلا مع الجرذان المنتشرة في الشارع حين يقوم الناس لهثا وراء لقمة العيش .
عجيب حال الناس الآن، يثرثرون ويكثر لغوهم فيما لا ينفع ولا يضر ويقطعون أميالاً في تصنيف أنواع الغيب ومصائب الأقدار، وهم بين اليل والنهار يتكاسلون عن الإيجابية أو التغيير، ويتمرغون في انتظار تراب ” الميري ” أبهى سنوات العمر وينكدون علي أنفسهم وعلى أهاليهم حسرة علي العمر الضائع .
ويبنون فوق الأعاذير والروايات الواهية عشرات العلالي، والموضة أيضا أن يرص البني أدم أمامه حواجز الأعاذير لكي لا يفعل اأو ليبرر عدم رغبته أو قدرته الحقيقية حتي أصبحت هذه الأعاذير كالطاعون الأسود يأخذ الناس بالجملة .
والموضة تطويح الحقيقة المرة من الشباك وهي أن التردد في الناس يصيب الصغير والكبير كما أصاب زوج زينب من قبل، وقد يكون السبب فى ذلك الحالة العامة الإقتصادية أو الإجتماعية أو الحالة النفسية المهزوزة.
ومن الموضة أن يأكل الجهل والإعوجاج طاقة الناس وعقولهم أيام أن تزوجت زينب لم يكن الشارع بهذا السوء ولم يكن زوجها سيئاً كما هو الآن .
.. الآن وهي تري الشارع الجديد وترجع إلى حياتها الملولة في بيت زوجها تجد أن صبرها علي زوج متردد ربما يكون أرحم مئات المرات من الصبر علي بلاوي الشارع الجديد.
في المساء عادت تحمل عددا من الأرغفة وبعض المشتريات، وقد لمحت في عتمة أحد مداخل العمائر الجديدة ظلين لفتي وفتاة تصورا أن الخلوة لهما ميسورة، وأن التحرش الجنسي بالتراضي لا يغضب أحدا، ولا يعتبر جريمة وأن علي المتضرر غض البصر حتي لو انقلب اإلى زنا.
المرأة ارتجفت، وأسقطت ما تحمل، وأرادت أن تصرخ من هول الفحش المجترأ فى النهاية، هذا الشارع يعج بألاف الأنفس فكيف لا يقتلع أحد عين هذا الفاجر، فى العتمة الذى ذهب بغرائزه إلى أبعد حد، واستهون كبيرة بهذه البساطة، وطبعا على مرأى ومسمع من البعض المستتر على جرمه.
تصببت عرقا كالثلج فوق كل عصب فيها، لم تجمع ما سقط وفوق رأسها صوت غليظ ينهرها أن تقف أو تلتفت ويزيحها على المشهد.
” افسحي السكة وأنت كالداهية في وش الخلق “
لم ترد حتي خطت أول خطوة ثم انهارت في بكاء وعويل لم تعرف له مثيل لا حين مات أبوها ولا حين خرجت من بيت زوجها .
ليلتها لم ترد علي أحد وظلت تراجع ما شاهدت لا تريدأن تصدق ولا تستطيع أن تبلع إهانتها وإهانة كرامتها كامرأة نظيفة علي رصيف مدنس.
زينب انتهكت في دينها وعفتها وروعت في حشمتها وكيانها لكل ما رأت وسمعت، فاذا كان القانون لا يعتبر الزنا زنا إذا كان بالتراضي ولو في الطريق العام فأين الرجال الجواسر في الشرف والحق، مالذي حدث في العشرين عاما التي اعتزلت فيها في بيت الزوجية ؟!
بعد شهر خرجت إلى الشارع وعلى قلبها ألف حجر، تقطعه وصولا إلي المحكمة ومرورا بنفس المكان الذي روعها انتفضت من جديد.
في قلبها ألف حسرة وحسرة علي الشارع وأهله .
“الاختلاط الآن لا يعرف الصوم أو التقوى”
في الأتوبيس العام أفخاذ الرجال تستند إلى أفخاذ النساء وصدورهن خلف صدورهن والجميع كقطعة العجين المختمر في الصندوق كتلة واحدة لا تتجزأ، ولا تنقطع إذا اندفع الصندوق إلى الأمام أو إلى الخلف .
المحكمة لم تكن محكمة بالضبط كانت استعراضا لمتناقضات المجتمع وللزينات وبعثرة للفتنة وتمحيصا للذمم وسوقا لشراء شهادة الزور وأصوات تحسبن ” حسبنا الله ” وحناجر تزغرد واقدام تدوس اكوام نسوة وعيال علي الارض وزينب في انتظارها تراجع طوالع السعد والنحس في حياة أهل الشارع الجديد .
صوت متشنج يسن قانونا أخر من قوانين الغابة ” ياما قلنا النسوة لا مكان لهن إلا البيت، ولا عمل لهن إلا خلفة العيال ولا يصلحن إلا لهذا، اذا فلحن فيه الشرع يقول ذلك والدين يقول ذلك “.
عجوز علي الأريكة تستشيط غيظا فتحرك عصاها بعصبية في خطابها لزينب .
” مصيبة أخري، كل واحد الآن يجعل من رأيه الخاص دينا فوق الرقاب “ولسه ياما نشوف “..
الرجل يكمل محاضرته لابنه :
” ده أخرة من يتزوج بموظفة لا هي ترضي بقليلها ولا يملأ عينها شئ، من الأول لم يكن لك إلا ابنة عمك مستورة وفي حالها، لا تتعالي عليك ولا تفرغ عينها فيك لفرشها “
” تذكرت زينب أنها ابنة عم زوجها السابق، وأنها لم تفرغ عينها أبدا، وامتلأ منديلها بدموع الندم علي عدم صبرها عليه في شدة تردده، ولامت نفسها علي باب المحكمة أنها اأصرت علي الطلاق وخرجت من البيت الذي كان يحميها من الشارع الجديد.
في الطريق توقفت لشراء كتاب قديم للشاعر قرات في إهداء الشاعر لمحبوبته :
” أيها الحب لا شئ يمحوك، أنت السحر أنت الفتنة وسواء أكنت شعلة أم مصباح فأنت الذي تشرق في عيوني وبين أضلعي “.
فكرت أن تعود المياه لمجاريها خاصة وأن زوجها السابق يوسط بينه وبينها الأهل، والأحباب ولكنها تذكرت أن تردده القاتل يقتل كل أمل يمكن أن يقول لها فيه (أحبك) وأن هذا التردد قد اقتلع هذا الرجل من وجدانها فعزفت عن الفكرة ولم تشتر كتاب أشعار الحب ولم تتردد .

زر الذهاب إلى الأعلى