أحمد البنا يكتب: فن صناعة الوهم
لم تنجح الجماعات المتطرفة فى شىء على مدار التاريخ الطويل مثلما نجحوا في تجارة واسعة بذلوا فيها المال والجهد و الأرواح و فتحوا لها أسواقاً فى مختلف البلدان العربية والأجنبية، وجعلوها أساساً تنبنى عليها أعمالهم الشيطانية، ثم تطورت تلك التجارة حتى أصبحت صناعة متكاملة لها أسس وقواعد ومسالك محددة لم تكتب فى كتب أو مؤلفات فحسب وإنما كتبت فى صدور ونفوس الأجيال المتعاقبة حتى أصبحت أسلوباً ومنهجاً للتفكير.
تلك التجارة هى بيع الوهم، ثم ما لبثت أن أصبحت صناعة بكل أدوات الصناعة، تجوب هنا وهناك وتنتج كل يوم المزيد من الأوهام التى تسيطر على العقل الجمعى للمجتمعات الإسلامية حتى أصبحت هى الفكر الإسلامي وما دونها هو خروج عن مبادئ الشريعة الإسلامية
فقد قامت بداية تلك الجماعات على أفكاراً وهمية أرادوا أن يصدروها للناس ويقنعوهم بها، بدايةً من سقوط الخلافة التى – على زعمهم – أسقطت حكم الشريعة في بلاد المسلمين ، وعلى هذا قاموا بإنشاء ما أطلق عليه أهل الرأي ( الدين الموازى ) فمن كان معهم فهو على الإسلام ومن ليس معهم فقد خرج ، وقد أغفلوا بذلك سنوات طويلة من جهود مضنية قام بها علماء الإسلام فى تقنين الشريعة الإسلامية من الإمام الكبير مخلوف المنياوي إلى رفاعة الطهطاوى الى قدرى باشا مرورا بالدكتور صبرى أبو علم و عبدالرزاق باشا السنهورى و غيرهم و ذلك حتى تتماشى الشريعة مع القوانين العالمية بعد الثورة الفرنسية التى أحدثت تغييراً واسعاً في النظم العالمية و قوانين الدول .
ثم ما لبثوا أن زعموا منذ البداية بأن أشاعوا بين الناس أن من سكت عن سلوك دربهم هو من شيوخ السلطان الذين باعوا دينهم وضمائرهم مقابل إرضاء الحاكم وابتغاء المزيد من المال و الوجاهة والحفاظ على استقرار الحياة ، وكانت البداية من مواجهة الشاب حسن البنا وهو فى بداية دراسته فى دار العلوم للشيخ الكبير يوسف الدجوى الذى كان عضواً في هيئة كبار العلماء والذى اتهمه وقتها بأنه ضعيف يخشى ضياع لقمة العيش، ومن يومها صار ذلك لهم أسلوباً و منهجاً فى مواجهة الحكام وكبار العلماء .
ثم بعد ذلك ابتدعوا وهماً جديداً ليثبتوا به أوهامهم السابقة ألا وهى جاهلية المجتمعات والتى تستوجب قتالهم ، فذلك المجتمع الذى لا يُحَكم الشريعة هو مجتمع جاهلى ينبغى أن نقاتله ونقوم عليه بالسلاح وبالتالي فعلينا أن نجدد فريضةً قد غابت عنا ألا وهى فريضة الجهاد حتى ألّف بعضهم كتاباً سماه ( الجهاد .. الفريضة الغائبة ) و اعتبر أن كل الأمة تخلت عن ذروة سنام الإسلام وأبطلوا فريضة من فرائض الله وهى الجهاد ، وكأن كل هذه الأمة منذ سنوات طويلة كانت على باطل وجهالة كبيرة ! .
ولم تقتصر أوهام المتطرفين عند هذا الحد وإنما كان لزاماً أن يضيفوا وهماً جديداً يدعموا به قضيتهم الفاسدة فاعتبروا أن تلك البلاد التى فيها نعبد الله ونقيم شعائر الإسلام هى بلاد الحرب التى يُحارب أهلها فشاعوا بين الناس القتل وإراقة الدماء بالباطل بدعوى الخروج من الملة ..
ولما قاومتهم الشعوب وشعروا بالضعف لبسوا رداء المظلومية لجذب العدد الأكبر من الناس وغرسوا فى نفوس الشباب وهماً آخر يعزز تلك القضية ألا وهو (التمكين) الذى يداعب نفوس الشباب المتحمس التائه الذى يريد حلماً وهدفاً يجمعهم ويعيشون من أجله بل ومستعدون للموت من أجله ، ولم يجدوا افضل من السعى إلى التمكين لإقامة دولة الإسلام – كما يزعمون .
وتراكمت السنون ومرت أجيال عاشوا وماتوا على تلك الأوهام حتى سيطرت على عقول الشعوب وصارت عند الكثيرين هى الأصل ، وأصبح تغيير ثقافة الشعوب من هذا الخلل الفكرى الفادح أمرا ً فى غاية الصعوبة .. تحتاج إلى جيوش من العلماء و المفكرين تُضاف إليهم جهود القوى الناعمة و التى يعززهم قوة الأمن الذى يسيطر فى الوقت المناسب على زمام الأمور .
وبالتالي فقد نجحوا فى صناعة الوهم وصدروه للناس و أخفوا عن الناس الحقائق وعبثوا بالعقول حتى صار الوهمُ أصلاً .. والكذبُ حقاً .