أسماء خليل تكتب: كلماتٍ ليست كالكلمات
يصادف المرء بعض الأحداث أثناء مروره بالحياة، يعلق بعضها في مهب الريح ولكن يُعمِّق الآخر بصمةً داخل روحه تاركًا بعضًا من الحنين كلما تذكره، ربما للمكان.. للأشخاص.. أو ربما لطرافة الموقف وتفرُّدهِ، وخاصةً إذا مسَّ ذلك الحدث بعض المعاني الحقيقة للحياة.
فقد كنا أنا وصديقاتي الثلاث ونحن ما نزال في مقتبل العمر نحمل كتبنا ونحتضنها احتضانًا يحاكي حبنا للحياة.. نسير متشابكي الأيدي إلى المدرسة الثانوية.. ترشدنا كل السبل إلى تأصل معاني المحبة والبهجة داخل أرواحنا.. لم تكن هناك من متعةٍ تعادل متعة لقائنا اليومي ونحن في طريقنا إلى المستقبل.. كان الشارع الذي نسير به كل يوم معهودًا في مرورنا به.. نفس البيوت والحانات وكل شيء.. إلا أن هناك مشهدًا أكثر ثباتًا كثبات أعمدة الإنارة بالشارع.. رجلٌ قد أوشك على الثمانين من سِني عمره، متوسط البنية الجسمية، طبعت السنوات بصمتها على هيئته الشكلية ولكنها لم تترك أثرًا داخل نفسه.. فتبدو تصرفاته أصغر من سنِّه.. كان قابعًا على كرسي أمام حانته واضعًا إحدى رجليه على الأخرى، يُمسك جرنالًا قد اقتص منه جزءًا ليرى المارة، بجواره منضدة صغيرة مرتفعة عليها الصينية وكوب الشاي، وأمامه“ الشيشة” إن جاز التعبير…. كنا كلما اقتربنا إليه انغمس أكثر بالقراءة.. حتى إذا أضحينا أمامه مباشرة.. وجدتُ صوتًا يقول “هل القمر يظهر نهارًا؟!” لم أصدق ما أسمع.. من أين ذلك الصوت؟! نظرت حولي نظرات حانقة وظللت أستدير يمنةً ويسرةً لأتحقق من قائل تلك الكلمات.. فنظرتُ للرجل ولكني وجدته منغمسًا بالقراءة.. فتعجبت!
وفي اليوم التالي حدث ما حدث باليوم السابق.. نفس الكلمات من نفس الرجل الذي تجاوز الثماني عقود من عمره.. وحينما نظرت – مرة أخرى- وجدته على نفس الهيئة منغمسًا بالقراءة… يا الله! في هذه المرة لم أتمالك نفسي من الضحك.. ضحكت وضحكت ضحكاتٍ مكتومة لا أعلم مصدرها الحقيقي.. وكل يوم يتكرر المشهد في نفس التوقيت، فذاك هو طريقنا للمدرسة، وكأنه مشهد سينمائي يتم عرضه بنفس التوقيت؛ حتى أخبرت صديقاتي وأنا في حالة اندهاش .. فلم تصدقن من كثرة تصنم الرجل في جلسته ولسني عمره.. ولكني أقسمت لهن أني صادقة.. قالت إحداهنَّ سنراقب غدًا… وحينما حدث ما حدث قلت لهن أسمعتن؟!
أطلن النظر والسمع حولهن ولكن… لا شيء.. لا كلمات… إنك تمزحين حقًا هكذا ما قالت إحداهن لي…
فسرعان ما خطر على ذهني فكرة لأستعرض بها مدى صدقي.. قلت لهن واحدة منكن ستسير هي- غدا- في مواجهة الحانة الجالس أمامها الرجل، ونرى ماذا يحدث!!. سرعان ما وافق الجميع..
وفي الصباح بدأنا جميعًا نعبأ بالأمر.. وسارت صديقتنا بمجازاة الطريق حتى أتت أمام الحانة… فسرعان ما ضَحِكَتْ ضحكةً ولم تتمالك نفسها فضحكن جميعًا.. ارتاح قلبي أنهن صدقن ما ذكرته لهن..لم نكن نعلم هل ضحكنا وتعجبنا من ذلك الموقف لكبر سن الرجل الذي قد تجاوز من سني عمره سني عمر جدودنا؟! أم لتصنمهِ على تلك الهيئة وانغماسه بالقراءة؟! أم لكوننا ننظر حولنا بعد سماع تلك الكلمات الغزلية المُضحكة فنظل نبحث عن مصدر الصوت في دهشةٍ فلم نجد شيء، وبسرعة مُذهلة يغلق الرجل فمه؟!الأهم أننا ضحكنا من قلوبنا… تبادلت صديقاتي واحدةً تلو الأخرى السير بجانب الحانة يوميًا لتسمع تلك العبارة الغزلية ذات الذوق البلدي .. لتضحك فنضحك لضحكها… وظللنا نتبارى كل يومٍ من ستسير بجوار الحانة لتسمع من جدو تلك العبارة… ثم نضحك ضحكاتٍ لم تسمعها سوى قلوبنا الرقيقة البريئة التي لم تكتب أقلامنا المدرسية بها أي كلمة.. قلوبنا التي لم تكن تحمل همًّا ولا خبرةً ولا تعبأ بأي شيء..
إنَّ الرجل لم يكن مُغازلًا تلك الفتيات الصغيرات اللاتي لم تبلغ سن أحفاده؛ لكنه كان يُغازل الحياة التي لم نكن نفهمها إلَّا بعدما حيينا بها عقودًا من الزمن؛ لندرك شيئًا في غاية الأهمية، أن الحياة بحاجة لأن نُغازلها، بنظرةٍ إلى السماء الصافية.. باستنشاق بعضًا من أريج الزهور.. أو ربما ببضع كلمات!!
وبعد مرور عقدين من الزمان كنت بالطريق.. مشيت بذاك الشارع مصادفةً…وحينما كنت في مواجهة تلك الحانة.. اقتحمت مسامعي كلمات الرجل التي لم تكن كأي كلمات؛ فضحكتُ ولكني تذكرت أني بالطريق فاستكملت ضحكاتي بقلبي.. نظرت إلى اللافتة المعلقة بالحانة فوجدتها قد تغيرت وكل شيء قد تغير ولم أجد الرجل بالطبع… ولكني وجدت صدًى مبهجًا داخلي لأيامٍ كنا نشد بها طرف أي خيط كي نمرح ونسعد….
ما برحت الابتسامة تعلو وجهي حتى دلفت إلى البيت وشيء من السعادة تعبأ به روحي، ففتحتْ لي الباب ابنتي التي لم تتجاوز العاشرة من سني عمرها.. نظرت إليها وهي ترتدي فستانًا جميلًا.. فوجدتني أقول لها “هل القمر يظهر نهارًا؟!” نظرتْ الفتاة إلىَّ محملقةً ولم تفهم شيء .. ثم قالت.. ماذا؟! فضحكتُ.. ثم قلت لها: لا شيء.. غدًا ستضحكين يا ابنتي بعدما تفهمين فلسفة الحياة.
كلمات ليست كالكلمات للأستاذة أسماء خليل هي قصة قصيرة جميلة مكتملة الأركان من حيث السرد والوصف والأسلوب اللغوي ومكتوبة بحرفية بالغة تبعث في النفس البهجة. ويندر حاليا من يمتلك ناصية القدرة علي كتابة قصة قصيرة مكتملة الأركان وممتعة.