د.ناجح إبراهيم يكتب: تأملات فى عيد الأضحى

“أيقنت أن ضوضاء العائلة هى هدوء القلب وراحته”.. كلمات استعارها الدكتور ناجح إبراهيم من الأديب الروسى الكبير دوستوفسكى ليعبر بها عن فرحة “لمة العائلة” احتفالا بالعيد.. ماذا قال أيضا الدكتور ناجح عن العيد.. اقرأ مقاله التالى المنشور فى جريدة “الوطن” تحت عنوان: “تأملات فى عيد الأضحى”:
أجمل ما فى الأعياد صلة الرحم واجتماع الأقارب والأسرة الكبيرة والصغيرة، ما أحلى لعب الأطفال حولنا ومزاحهم، واجتماع عدة أجيال من الأسرة، بدءاً من العامين وحتى السبعين، وكل منهم له عالمه الخاص ويتحدث مع من على شاكلته فى العقل والعمر، فهذا شيخ يحكى عن التاريخ القديم والحديث، وهذا طفل يلهو تارة ويبكى أخرى ويقهقه ثالثة، ويطلب الجنيه ليشترى الحلوى من عم حسن، وبنات من كل الأعمار أبناء أعمام وخالات وجارات وصديقات حرصن جميعاً على التزين والمكياج اللائق بالأسرة، وسيدات من كل الأعمار، يتخلل ذلك وجبات الطعام وخاصة الفتة واللحوم، ثم الشاى والمشروبات، ثم الحلويات والمكسرات، وأكثر ما يزين هذه الجلسات شقاوة الأطفال الصغار، وخاصة الذين تنطق حركاتهم وكلماتهم وعيونهم بالذكاء والحيوية.
حينما أعيش هذه اللحظات أتذكر كلمة الأديب الكبير دوستوفسكى: «أيقنت أن ضوضاء العائلة هى هدوء القلب وراحته»، إنها لحظات نسرقها من حياتنا الصعبة، ومن أيامنا الرتيبة، ومن همومنا المتراكمة، وكما عبّر مثله أبوالقاسم الشابى «لا نسأم اللهو الجميل وليس يدركنا الفتور.. فكأننا نحيا بأعصاب من المرح المثير».
أعياد بغير صلة رحم غم، وأعياد بدون أطفال هم، وأعياد دون مشاركة الأسرة الكبيرة لا معنى لها، كل عام وأنتم بخير.
من كلمات الحافظ ابن عبدالبر الرائعة: «من قلَّ خيره على أهله فلا ترجُ خيره»، وهذه والله وجدتها فى الحياة، والعوام يقولون: «من لا خير له فى أهله لا خير له على الإطلاق»، وقد وجدت أن أشقى الناس من يعق والديه ويقطع رحمه، وأكثرهم سعادة وسعة من يبر والديه ويصل رحمه.
الأسرة الوحيدة فى التاريخ التى خلد الله ذكرها وجعل معظم تصرفاتها مناسك تعبدية لأكبر وأهم أمة فى التاريخ، أمة الإسلام، هى أسرة الخليل إبراهيم عليه السلام، وهذا لم يحدث مع أى أسرة أخرى. لم يأتِ اختيار الخروف كفداء لإسماعيل هكذا، ولكنه اختيار ربانى يجعلنا نتأمل فوائد الخروف كطعام.
كسب القلوب والرجال أهم بكثير من كسب المواقف.
من أجمل كلمات العلامة المحدث أبوسليمان الدارانى: «إنى لأخرج من منزلى فما يقع بصرى على شىء إلا رأيت فيه لله نعمة أو عبرة»، وهذا القول أراه واقعاً أمامى فى كل يوم وأنا أطالع الحياة.
من أجمل كلمات العلامة ابن حبان: «العاقل لا يصادق المتلون ولا يؤاخى المتقلب»، فمن صادق هؤلاء فسد عقله وقلَّت ثقة الناس به وانصرفوا عنه. كما أن الثواب وأجر الطاعات يتضاعف فى الأيام والأماكن الفاضلة فإن المعصية فيها يتضاعف عقابها، ألم يقل الله عن نية المعصية فى المسجد الحرام: «وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ»، فعاقبهم بالعذاب الأليم بمجرد نية الشر والسوء. يولد الإنسان وهو غير مستعد للحياة ويموت وهو غير مستعد للآخرة، حسن الخاتمة هو النهاية التى تحددها البدايات، سواء كانت صالحة أم فاسدة.
ثلاثة لا تزوجهم ابنتك حتى لو كان كل منهم آخر رجل فى الدنيا «البخيل والمدمن والذى يضرب النساء»، والضرب موروث من الآباء والأجداد، أو من النشأة القروية الجافة، وقد خبرت مئات الحالات ممن يضربون زوجاتهم ضرباً مبرحاً فوجدت أن لا علاج لهم إلا أن يذوقوا من نفس الكأس، وهذا لا يصلح فى عصرنا، أو أن يُسجن أو يرى السجن أمامه، فتنضبط كيمياء عقله، أما كثرة النصائح والوعظ فلا تفيد كثيراً فى ضبط كيمياء عقولهم.
كان الفضيل بن عياض يردد دائماً أمام الفضلاء: «أما علمتم أن حاجة الناس إليكم نعمة من الله عليكم»، ودائماً ما أكرر هذا المعنى لمن أقصدهم فى حوائج الناس حتى لا يضجروا من كثرة حوائجهم وطلباتهم، فمن اصطفاه الله لقضاء حوائج الخلق وتفريج كرباتهم والتخفيف عنهم فعليه أن يسعد بهذا الاصطفاء العظيم، فإن ضجر ورفض مراراً خدمة الناس حيل بينه وبين هذا الخير، وساعتها سيندم على إغلاق أعظم أبواب السعادة فى الدنيا والآخرة، فمَن أسعد الناس وأكرمهم ورحمهم أسعده الله ورحمه، والإسلام من وجهة نظرى هو أمران لا ثالث لهما «معرفة الحق» سبحانه و«الرحمة بالخلق»، وقضاء حوائج الناس يقع فى الجزء الثانى. الزمن جزء من العلاج، وهو أنصح المؤدبين وأقواهم، ومن لم يتعلم من والديه فإن طوارق الزمان كفيلة بتعليمه، ومن لم يتعلم من والديه ومعلميه بالرفق فإن تجارب الأيام ستعلمه ولكن بقسوة وأحياناً بعنف، وسيدفع فى هذا التعليم كثيراً.
وختاماً قال الجنيد: مشى رجال على الماء ومات من العطش خير منهم.

زر الذهاب إلى الأعلى