عاطف عبد الغني يكتب: الدين والسياسة (٦) معارك البهائية مع الأزهر والقضاء والداخلية
نعم هناك جديد، فالبهائية ليست مجرد القصة القديمة والمعادة عن شخص مريض نفسيا ادعي أنه المهدي أو نبي، أو أنه بهاء الله أو مظهر من مظاهر تجلياته، أو أنه هو نفسه ذات الأله (حتي لو نفي أتباعه أنه ادعي الألوهية).
أو ما إلي ذلك من خرافات أخرجوها في مظهر القداسة، أو حاولوا إصباغها بمباديء إنسانية، أو ما إلي ذلك مما سنناقشه لاحقا.
أما الجديد فهو أن البهائية لا تنثني – عبر أتباعها وعملائها – تطل علينا بوجهها القبيح سافرة، تريد أن تعلن عن نفسها كأمر واقع و دين معترف به من قبل الدول، وخاصة الإسلامية، رغم أنف الجميع، وهي في هذا – قديما والآن – تستقوي بقوي سافرة سافلة ومنظمات مشبوهة في الخارج، و أدعياء للحقوق مغرر بعقولهم في الداخل، يرفعون شعارات حرية العقيدة وحق الإنسان في أن يعتقد ما يشاء، في ذات الوقت الذي يحاربون فيه الإسلام حربا خبيثة، من خلال الترويج لفكرة أن أفكاره من أسباب تخلف الأمة!!
ومثالهم في ذلك الغرب، ويروجون إلى أنه انفصل عن الكنيسة فتقدم، وهم بذلك كالذي يري نصف الحقيقة ويتغافل عن نصفها الأخر.
يرون نصف الحقيقة لأن السلطان الكنسي الذي كان يهيمن علي الدين في الغرب لا نظير له في الإسلام، ويرون التقدم المادي الذي حققه الغرب، و لا يرون التأخر والفراغ الروحي الذي يعاني منه، و يدفع الغربيون الآن إلي تسول الحقيقة والإله فى جمادات، أو فى فلسفات الشرق الأقصى، والمذاهب الصوفية المنحرفة الأسطورية المشركة.
و ذهب بهم الابتعاد عن العقيدة الصحيحة إلي الابتعاد عن حكمة الله في الكون و إعماره، تلك الحكمة التي أوضحتها الشرائع السماوية، و لكن العلمانيين والذين يرفعون شعارات التقدم والرقي بعيدا عن الدين أسقطوها في اندفاعهم نحو التحرر، فأصبحنا نري من مظاهر هذا التحرر ممارسات تصل في شذوذها إلي زواج الرجل بالرجل، في تحد صريح لحكمة الله في خلقه كما نفهمها و نعرفها في الإسلام، و قياسا علي هذا إذا نظرنا إلي البهائية علي أنها حرية اعتقاد، و أقررنا بهذا فنحن نقر بحرية الفوضي، و نقر بازدراء الأديان السماوية، و نقر بحرية الكفر، بل و نعين علي نشر هذه الجريمة، فنتعدي بذلك علي حرية الآخرين في الإيمان الصحيح، و هل هناك شك في أن البهائية كفر؟!
ليست كفرا فقط، و لكن الاعتقاد بها ارتداد عن الإسلام، والمسلم الذي يعتنقها يجب أن تطبق عليه حدود الله في هذا الأمر، وهناك فتوي صادرة عن لجنة الفتوي بالأزهر الشريف برئاسة الإمام عبدالمجيد سليم في هذا الأمر بتاريخ 23 سبتمبر 1947، و علي هذه الفتوي استند القضاء المصري في رفض إعلان صحة عقد زواج بهائى، ثم علي أحكام البهائية.
والقصة كما ترويها وثائقها تبدأ فصولها بأن هذا البهائي الذي حاول توثيق عقد زواجه علي الأحكام البهائية، و كان هذا العقد قد تم في المحفل الروحاني للبهائيين بالإسماعيلية بتاريخ مارس 1947 في شهر العلا (البهائي) لسنة 103 بهائية، وتم رفض هذا العقد، فلجأ البهائي لحيلة أخري بأن تقدم إلي الجهة التي يعمل بها، و هي مصلحة السكة الحديد يطلب منح علاوة الزواج وأرفق بطلبه صورة من عقد زواجه (البهائي)، وبالطبع لفت نظر المسئولين في الهيئة هذا العقد ولابد أنهم وقفوا حياري أمامه، لكن الأمر لم يطل واتفقوا علي رفعه إلي المستشار القضائي للوزارة، فأرسله الأخير إلي مفتي الديار المصرية الإمام عبدالمجيد سليم فأفتي ببطلان الزواج والتوريث، وأضاف في حيثيات الفتوي أن من اعتنق مذهب البهائيين بعد أن كان مسلما اعتبر مرتدا عن الاسلام تجري عليه أحكام المرتدين، و زواجه بمحفل البهائيين باطل شرعا.
وقد سبق الافتاء بكفر البهائيين و معاملتهم معاملة المرتدين.
لكن موظف السكة الحديد الذي كان يستقوي باعتراف المحتل الإنجليزي والمحاكم المختلطة بالبهائية، في هذا التاريخ، وقد سمحت لهم المحاكم المختلطة بإنشاء محفل بالإسماعيلية، نقول إن هذا الموظف لم تردعه الفتوي، فحرك دعوي ضد المصلحة التي يعمل بها في مجلس الدولة، ووكل عنه اثنين من كبار المحامين، و استمرت القضية منظورة أمام القضاء الإداري لمدة عامين كاملين انتهت المحكمة إلي الآتي:
إن أحكام الردة في شأن البهائيين واجبة التطبيق جملة وتفصيلا بأصولها و فروعها، و لا يغير من هذا النظر كون قانون العقوبات الحالي (في تاريخ نظر الدعوي) لا ينص علي إعدام المرتد، فليتحمل المرتد علي الأقل بطلان زواجه، وذيلت المحكمة حكمها السابق بتوصية مشددة أهابت فيها بالحكومة المصرية أن تأخذ للأمر أهبته حتي تقضي علي الفتنة في مهدها، و قالت بالنص: «لأن تلك المذاهب العصرية مهما تسللت في رفق، و هوادة وفي غفلة من الجميع، متخذة من التشدق بالحرية والسلام ومن تمجيدها لبعض الأنبياء سترا لما تخفيه من زيغ و ضلال، فانها لن تلبث أن ينكشف سترها، وقد تكون استمالت إليها كثيربن من الجهلة والسذج، و هنالك تثور نفوس المؤمنين حفظا لدينهم، واستجابة للفطرة السليمة التي فطر الله الناس عليها، و تكون هي الفتنة بعينها التي قصد الدستور إلي وقاية النظام العام من شرورها».
وهذه الديباجة الحاسمة التي ذيل بها القضاء منطوق حكمه في هذه القضية يوضح أن هذا الأمر في هذا التاريخ يتفق مع روح الدستور المصري.
كان هذا هو أول حكم قضائي ضد البهائية، لكن الفتوي الدينية التي استند إليها الحكم لم تكن الأولي، فقد سبقتها فتوي شيخ الأزهر سليم البشري، رقم (2522) ، الصادرة بتاريخ 3/ 11 / 1939 حذرت من خطر البهائيين علي العقيدة، وعلي النظام الأساسي للدولة، و دمغت كل من يعتنق البهائية بدامغ الكفر الصريح.
وبين الحين والآخر كانت تثور قضية البهائية والبهائيين، فيسأل الناس عنها أو الجهات الرسمية و تصدر فتاوي كلها تتفق في مضمونها مع ما سبق، و هناك عشرات الفتاوي بهذا المعني منذ تاريخ ظهورها المبكر فى مصر، خلال القرن العشرين، وحتي فتوي شيخ الأزهر التي صدرت في شهر مايو من عام 2006 م – تحمل نفس المعني و نفس الحكم علي البهائية.
وخلال هذا التاريخ تحاول الأمة أن ترصد حركة البهائية، وعلى الرغم من أن كل هذه الإعلانات والفتاوي التي تقرر أنها عقيدة منحرفة إلي درجة الكفر والعياذ بالله، إلا أن البهائيين لم يكلوا أو يملوا وبمجرد أن يتصوروا أن الفرصة سانحة يقومون بمحاولات لإعلان أنفسهم والوصول إلى شكل رسمي للاعتراف بهم، عبر سند هوية، أو أى أوراق رسمية كخطوة أولي للاعتراف بهم، فبعد مضي ما يقرب من عشرين عاما علي قضية موظف السكة الحديد البهائى الذي حاول توثيق عقد زواجه، تقدم أحد المحامين إلي مكتب توثيق القاهرة بطلب توثيق ثلاثة عقود للزواج، بموجب توكيل عن أصحاب العقود البهائية، مستندا إلي المادة الثالثة من قانون التوثيق الخاص بغير المسلمين، و كان رد وزارة الداخلية علي الطلبات الثلاثة بالرفض، استنادا إلي أن الحكومة المصرية لا تعترف بالبهائية كطائفة دينية [1] .
ولما فشلت حيلة توثيق عقود الزواج، فكر البهائيون والقائمون علي أمرهم في مصر في استخراج أوراق ظنوا أنها أقل لفتا للنظر من عقود الزواج، و عليه تقدم محاميهم بطلب توثيق دار للنشر والطباعة باسم (المؤسسة البهائية للطبع والنشر)، و رفع أمر هذا الطلب إلي مجلس الدولة ليحصلوا علي حكم قضائي بالموافقة، لكن خاب مسعاهم هذا أيضا و كان القضاء من الاستنارة و حسن الإدراك بحيث نص في حكمه ليس فقط علي أسانيد الرفض، ولكن فند أسبابه الجوهرية حيث قال:
“تبين أن تعاليم الطائفة البهائية كما هو ظاهر من كتبها، و ما استظهرته محكمة القضاء الإداري بمجلس الدولة في حكم سابق من أنها ترمي إلي بث عقائد فاسدة تناقض أصول الدين الاسلامي، و ترمي إلي تشكيك المسلمين في كتابهم وفي نبيهم عليه الصلاة والسلام، و من حيث أن محاولة نشر هذه العقائد الفاسدة و تعاليمها في بلد دينه الرسمي الإسلام، و ما يترتب علي ذلك من تكدير للسلم العام و إثارة المسلمين مما يدفع أغراض هذه المؤسسة بعدم مشروعيتها، واستنادا إلي ما بينته وزارة الداخلية بأنها لا تعترف بالطائفة المذكورة طائفة دينية”.
لكن يبدو أن الله أعمي أبصار أصحاب الفتنة، أو أرادت مشيئته أمرا كان غائبا عن البهائيين حين أغواهم الشيطان، ودفعهم بعد هذا الرفض بشهر واحد أن يحركوا دعوي أخري بصفة أخري ضد وزارة الداخلية، يطلب فيها أحد البهائيين منحه الجنسية المصرية بصفته الدينية، هذا الأمر الذي ترفضه الدولة و نظامها العام. و مع توالي النشر والجدل في الصحافة والمجتمع حول هذه القضايا، و ظهور طفح البهائية علي سطح جلد المجتمع، أصدر الرئيس جمال عبدالناصر قرارا بقانون رقم (263) لسنة 1960 بحل المحافل البهائية، و حظر نشاطها، و مصادرة جميع مقارها، و تسليم المحفل الرئيسي لها و مقره العباسية بالقاهرة الي جمعية المحافظة علي القرآن الكريم. و بصدور القانون رقم 262 عن رغبة مجتمعية، و ادراكا من أعلي سلطة في الدولة لخطورة هذا النشاط العلني الممثل في المحفل البهائي والذي كان قد بدأ في مصر مع بداية القرن العشرين.