أحمد جمال البنا يكتب “حكمة”: شعب متدين بطبعه
ساقنى القدر لكى أزور منقطة من أحب المناطق إلى قلبى ، ميدان السيدة نفيسة ومقامها الشريف ، فجلست أترقب وجوه الناس حولى ، كلهم في طمأنينة فهم في رحاب حفيدة رسول الله صلى الله عليه وسلم .. المكان هادئ .. تفوح منه رائحة العطور المختلطة بالبخور . كل ما هناك يضفى حالة من السعادة الداخلية والروحانية التلقائية التي لا تكلف فيها .
جلست في انتظار فتح أبواب المسجد لصلاة المغرب ، فتطايرت حول أذنى كلمات الناس من هنا وهناك حتى سمعت امرأة مسنة تقول لابنتها كلمة كثيراً ما نسمعها ونقولها ” قدر ولطف ” ، لا أدرى ما الذى قدره الله وما هو لطفه الذى جرى في هذا القدر المخفى ..
لكن الكلمة استوقفتني ، فما هذا الشعب الذى تندرج على ألسنة العامة فيه ألفاظ وعبارات هي من صميم العقيدة ، ودليل حى على انطباع الدين في نفوسهم !
” شعب متدين بطبعه ” هي كلمة قيلت كثيراً حتى أصبحت طرفة نقولها استهزاءً بسبب ما نراه من حوادث مشينة وغريبة تحدث في مجتمعنا المصرى ، لكننا لو فكرنا قليلاً لوجدنا أن هذا الشعب فعلا ” متدين بطبعه ” ، فما هذا الصبر والحكمة التي تقود امرأة مسنة لتقول هذه الكلمة ” قدر ولطف ” إلا أن فهمت أن قدر الله سارٍ لكنه يخفى الألطاف الإلهية التي تخفف عن العباد شدة الأقدار في حياتهم ، فلولا لطف الله ما تحمل العبد الأقدار ، وقد قالوا قديماً :” لطفه يجرى وعبده لا يدرى ”
كل هذه عقيدة يدركها العبد ، وتنطبع في نفسه ، وفى نفوس عموم الناس خاصة في مصر بلد الأديان ، حتى صارت لهم سجية وأقولاً على اللسان تنبئ بما في القلوب .
وإذا بحثنا في قاموس المصريين لوجدنا العديد من الكلمات والأفعال التي هي بمثابة إظهار لحقيقة الدين في قلوب الناس ، حتى وإن تغافلوا قليلاً أو تناسوا ، وإنما يظل الدين منطبعاً في نفوسهم ، ( اللى يصلى على النبى يكسب … كل تأخيره وفيها خيره … ربنا مبيعملش حاجة وحشة .. وغير ذلك )
كل كلمة من هذه الكلمات لو قمنا بتفصيلها لكانت درساً في العقيدة ، وإظهاراً لمدى فهم المصريين لطبيعة الدين ، ومدى تمسكهم به حتى صار سجيةً لهم وليس مجرد عبادات تقام أو نصوصاُ تقرأ . فما لهؤلاء القوم الذين يدعون أن المصريين قد خرجوا من نطاق الملة ، وأنهم يرفعون شعارات البدع و الإنحلال لا يكادون يفقهون ويفهمون طبيعة المصريين ؟
هؤلاء هم المصريون يفهمون ويؤمنون ثم يحولون ما فهموه إلى تجارب حية يتعايشون بها حتى تصبح لهم عادةً وطبعاً وليست مجرد طقوساً تؤدى كل فترة .
ولذلك لا يخطئ من يقول إن شعب مصر هو شعب متدين بطبعه فهذه حقيقة لا يمكن لأحد أن ينكرها وإنما تمر على الناس بعض الفترات يتغافلون قليلاً ويظهرون القبيح أحياناً لكن يظل بداخلهم الدين الحقيقى حتى وإن ظهرت أفعالهم على خلاف ذلك .