د.ناجح إبراهيم يكتب: الهجرة.. رؤية عصرية

 

• لولا الهجرة ما ركب نوح سفينة النجاة مع زوجين من كل الحيوانات والطيور ليرسو علي جبل الجودي في كردستان,ولتبدأ هناك حياة جديدة يغمرها الإيمان لا الكفر, والشكر لا الجحود.
• ولولا الهجرة ما ذهب إبراهيم بزوجته هاجر وابنه الرضيع إسماعيل إلي الصحراء القاحلة في جزيرة العرب,ولولاها ما تدفقت زمزم التي تسقي وتشفي الحجيج والناس حتى اليوم,ولولا هجرة هذه الأسرة المباركة ما وجدت مكة قبلة المسلمين جميعاً.
• ولولا هجرة إبراهيم عليه السلام إلي مصر مع زوجته سارة ما حلت بركته عليهم,وما تزوج هاجر المصرية التي صارت بعد ذلك أماً للعرب والمسلمين,والتي يخلد كل حاج مواقفها الإيمانية كلها.
• هاجر أم إسماعيل،وجدة كل أنبياء العرب مثل هود وصالح وشعيب ولوط وجدة النبي الخاتم محمد عليهم السلام جميعاً.
• ولولا الهجرة ما تشرفت مصر بثلة طيبة من أنبياء بني إسرائيل علي رأسهم يعقوب”إسرائيل”وتعني في العبرية”عبد الله”ومنهم يوسف والأسباط جميعاً,وأهمهم موسي بن عمران من أولي العزم من الرسل وشقيقه هارون,وأسرهم وأسر أتباعهم المؤمنة علي مر الزمان.
• ولولا الهجرة لوأدت دعوة موسي عليه السلام وقتله فرعون,فقد هاجر مرتين في طريقين متعاكسين أولهما من مصر إلي فلسطين هارباً من فرعون والأخرى بالعكس حاملاً رسالة ربه بعد أن تنزلت عليه ألواح التوراة وكلمه الله كفاحاً، وشرفت سيناء لكونها الموضع الذي كلم الله فيه نبيه موسي.
• إن من بركة مصر وشرفها أن هؤلاء الأنبياء العظام من أنبياء بني إسرائيل كانوا فيها وجاءوا إليها,ومن بركتها هجرة إبراهيم وزوجته الطاهرة سارة إليها.
• ولولا الهجرة ما حلت بركة المسيح وأمه مريم عليهما السلام علي مصر,وما اتخذوا أول مكان للعبادة فيها في دير المحرق وما شرفت محافظتي أسيوط بأن أطول إقامة لهما كانت هناك،فقد مكثوا قرابة ستة أشهر،أما بقي الأماكن فكانوا ينتقلون منها سريعاً دون أن يتخذوا فيها مكاناً للعبادة.
• وقد اختار الله لمريم وابنها الرضيع مصر دون غيرها من البلاد لعلة يعلمها الله,فقد كانت هناك أقطار كثيرة آمنة أقرب إلي الناصرة وبيت لحم من مصر,ولكن الله اختار لهم مصر دون غيرها.
• ولولا الهجرة ما دخل الإسلام أثيوبيا وجنوب السودان عن طريق الصحابة الذين احتموا بالنجاشي,فحمت المسيحية الإسلام في مهده وضعفه ثم رد لها الإسلام الجميل حينما دخل البلاد المختلفة فاتحاً ومنتصراً فلم يمس كنيسة بسوء ولم يهدم كنيسة بل رفع الظلم الروماني عنهم وعن قساوستهم الذين هربوا إلي الجبال فراراً من بغي الرومان.
• ولولا هجرة مسلمي الحبشة ما أسلم النجاشى،فقد دخل الإسلام السودان وأثيوبيا وأفريقيا دون أن تدخلها جيوش المسلمين علي الإطلاق وهذا حدث في ماليزيا وإندونيسيا وغيرهما.
• ولولا هجرة النبي إلي المدينة لماتت دعوة الإسلام ووأدت في مهدها.
• ولولا قبول أهل المدينة لهجرة النبي إليهم ونصرتهم له ما أصبح للمدينة المنورة هذا الشأن,فما الفرق بين المدينة والطائف مثلاً,وهل يستويان اليوم , كلا .. والعلة أن أهل المدينة بكرمهم وجودهم وشجاعتهم ورقتهم قبلوا دعوة الرسول ونصروه وأحسنوا وفادته فصار لها شأن عظيم ببركة النبي وصحابته,وبني فيها ثاني مسجد في الإسلام يشد الملايين إليه الرحال.
• أما أهل الطائف فحرموا أنفسهم وبلدتهم من هذا الخير لجفوتهم وغلظتهم وقسوتهم.
• ولولا الهجرة ما قامت دولة الإسلام الأولي في المدينة التي قامت علي الحب والإخاء وحرية العقيدة،وهي أول دولة مدنية في تاريخ المنطقة العربية التي تقوم علي العدل السياسي والاجتماعي وعلي رفض الطبقية والعنصرية،فذاب في بوتقتها سلمان الفارسي وبلال الحبشي وصهيب الرومي وسعد بن عبادة الخزرجى,وسعد بن معاذ الأوسي وعمر بن الخطاب وخالد بن الوليد وعلي بن أبي طالب القرشي.
• ولولا الهجرة ما عرف سلمان الفارسي الحق وما وصل إلي النبي الكريم محمد”صلي الله عليه وسلم”.
• لولا الهجرة ما نبغ د/أحمد زويل حتي وصل لنوبل,فلو بقي في مصر لقتلت البيروقراطية طموحه وعلمه.
• ولولا الهجرة ما وصل د/مجدي يعقوب إلي ما وصل إليه ولصار مجرد أستاذ جراحة عامة يخوض صراعات مع الكسالى ومحترفي”الأسافين”من الزملاء والموظفين عاشقي الإقصاء للنوابغ.
• ولولا الهجرة ما تعلم أمثال د/كمال أبو المجد,وأسامة الباز وفاروق الباز في جامعات عرقية مثل هارفارد وغيرها.
• ولولا الهجرة لفرنسا ما أثر أمثال د/عبد الحليم محمود,د/دراز,د/الطيب ود/مهنا في أساتذتهم وبلادهم فزادت تعدديتهم وتسامحهم وصوفيتهم عمقاً وتألقاً.
• ولولا الهجرة ما وصل اللاعب محمد صلاح إلي العالمية ولظل يرزخ هنا تحت وطأة مديرين لا يعرفون سوى المحاباة والفساد.
• ولولا الهجرة ما عاش وتعافي أبطال النضال الوطني علي مر الدهور والزمان.
• ولولا الهجرة ما انتقلت علوم الإسلام الشرعية من الأزهر ومدارس المذاهب إلي العالم كله،وما وصل فقه الأحناف إلي أطراف الأرض مثل تركيا والشيشان وأفغانستان وجنوب روسيا,وما وصل فقه المالكية إلي المغرب العربي والأندلس,وما جدد الشافعي فقهه حينما انتقل من العراق إلي مصر.
• الهجرة حياة ,وتطور,وتفتح للعقول والقلوب علي معان جديدة,إنني أكاد أميز بين الأزهري الذي لم يترك مصر و بين غيره الذي سافر للخارج مراراً فأجد الأخير فيه من الانفتاح والتعددية وتوقد الذهن وعبقرية الأداء ومرونته الكثير.
• وأفرق بين القسيس الذي عاش حياته كلها في مصر,وبين الذي عاش فترة في الغرب وبلاد الديمقراطية والتعددية فأجد الأخير أكثر سماحة ورقياً.
• الهجرة فطرة أودعها الله في نفوس الحيوانات والطيور والأسماك قبل الإنسان,وأوجبها علي بعض الناس وأباحها لآخرين”وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً ۚ “فسمك السالمون وهو من أرقي الأسماك هجرته تعد من أكبر الهجرات علي الأرض فهي تلد في الماء العذب,وبعد خروج البيض بعدة أشهر تهاجر إلي البحار حتى تصل لسن البلوغ ثم تعود إلي المياه العذبة لكي تضع البيض من جديد فيها,وأثناء هجرتها تسبح ضد التيار مع مناورات رائعة للهروب من الأسماك المفترسة.
• أما الحيتان فتعيش معظم حياتها قريباً من المياه الباردة ثم تسافر آلاف الأميال بحثاً عن المياه الدافئة لكي تضع مواليدها هناك وتسير بترتيب عجيب الذكور ثم الإناث الحوامل ثم الشباب الصغير وبعد أن تقضي أربعة أشهر في المياه الدافئة تعود مرة أخرى إلي الباردة .
• والفراشات تهاجر كذلك,والأفيال تهاجر,حتى البطريق البطيء الخطى يهاجر لمسافة 70 كم من أجل التناسل وتجتمع الآلاف منهم هناك ليختار كل منهم شريك حياته ويظل معه هناك بقية عمره الذي يصل إلي عشرين عاماً.
• لولا الهجرة لركدت الحياة,ولولاها لنضب العلم ولولاها ما كانت التعددية,ولولاها ما عرفنا تعددية الأعراق والألوان في بلد مثل مصر.
• الهجرة ليست فراقاً ولكنها حياة جديدة،سلام علي أنبياء الله ورسله الذين هاجروا وتركوا أوطانهم في سبيل الله ، وسلام علي كل من هاجر طلباً للخير والعلم وبذل المعروف والدعوة إلي الله وتعريف وتقريب الخلق للحق سبحانه.

زر الذهاب إلى الأعلى