منال قاسم تكتب: وفاء النيل
النيل يأتينا من الظلمات ليملأ الأكوان بالخيرات، يروي نداه أنضر الحدائق، وينبت الأرزاق للخلائق كأنه يأتي من السماء، ليمنح الحياة للأحياء ليحيي موات الأرض في النواحي.
منال قاسم تكتب: انتهاك صريح لخصوصياتنا وأمننا
هي بعض أبيات حفظها أجدادنا القدماء عن ظهر قلب، جعلوها أنشودة النيل، يرددونها كلما فاضت عليهم مياهه، حاملة إلى أراضيهم الخير والنماء، اعترافا منهم بفضل ذلك “الإله العظيم” المعروف بصانع السعادة، “حابي”.
تُدين الحضارة المصرية للنيل بالكثير، فهو مصدر للخير والنماء، على ضفافه وُجدت الحياة، وبعنفوان سريانه شكّل وخطط أرض مصر، وعلى انتظام توقيتاته أخضرت أرض المحروسة.
في 15 أغسطس من كل عام يحتفل المصريون بيوم “وفاء النيل”، الذي يعترفون فيه بفضل النهر العظيم عليهم، يرددون فيه الأناشيد والأغاني، يذبحون له القرابين، يقدمون له الأزهار، ويسيرون في مواكب الزينة، شكرا للنيل على فيضانه، الذي سيروي أراضيهم، وما سيتبعه ذلك من خير وفير سيعود عليهم.
لم يُلق المصريون القدماء ببناتهم إلى النيل ليفيض، وقد كذّب “هيرودوت” خرافة إلقاء فتاة إلى النيل، حينما قال: “إن المصريين كانوا يكرهون ذبح الحيوانات، ومن المعقول جدا أن يترفعوا عن إزهاق الأرواح التي قيل إنهم يقدمونها كقربان وضحية طلبا لوفاء النيل”.
يردد المصريون أنشودة النيل أثناء سيرهم في موكب يوم الوفاء العظيم، حيث ينزل الملك برفقة العديد من الأمراء في مراكب مُزينة متجهين إلى مقياس النيل وبحسب روايات متعددة تصف المشهد- ويظل الموكب هناك حتى يصل منسوب المياه إلى 16 ذراعا، لتقام بعدها الاحتفالات، التي تبدأ بضربة الملك بمعول من فضة في مكان محدد، تخرج منه الماء إلى قناة فم الخليج ليبدء سريان المياه، ثم تلقي دُمية في النيل مع حفنة من النقود الذهبية والفضية في المياه المتدفقة، ويتبعها الحاضرون للاحتفال من الشعب المصري بإلقاء قطع النقود والأزهار وسط اصوات الطبول التى تعلو وابتهاج الناس بقدوم النيل في موعده.
وذكر هيرودوت ، أن الملوك كانوا يشهدون مهرجان زيادة النيل، الذي كان يبدأ بمركب الكهنة الحاملين لزورق آمون رع المقدس، ويسير الملك في هذا الموكب الذي تتقدمه تماثيل قدماء الملوك، وخلال ذلك كان الناس يبتهلون إلي النيل، وقيل: إن الملك قبل الفيضان كان يركب النيل ويتوجه إلى مجراه العلوي ، ويحاول استعطافه بالهدايا ويقذف في أمواجه بردية فيها كلام سحري، يستحث النهر على الخروج من الأرض.
رغم اختلاف الروايات في “شكل” الاحتفال بفيضان النيل، إلا أن الثابت هو احتفال المصريون تعظيما لهذا النيل العظيم، مصدر الخير والنماء، شريان حياة المصريين الوحيد، وإن كان بقي الاحتفال على امتداد الدهر عابرا لأزمنة تجاوزت 7 آلاف عام، ليصلنا إلى يومنا هذا، فيجب أن يستحق ذلك عودة سمو وعظمة النيل من جديد في وجدان المصريين.
فأقل ما يجب أن يكون الحفاظ على المياه من أهم أولوياتنا مع عدم التلويث و عدم إلقاء المخلفات والحيوانات النافقة، عدم التعدي بالبناء والردم على النيل وفروعه -يقينا- هي أحد الوسائل “الحالية” التي يمكن أن يتبعها المصريون لتقديس النيل، بعد أن اختفت المظاهر الاحتفالية – وإن بقت ذكرى الاحتفال – لعلنا نترك لأبنائنا ما يبنون عليه أنشودتهم في حب نهر عظيم، أسر قلوب البشرية، بعد أن استقر في فؤاد المصريين حبه، معظمين من شأنه، مختتمين أنشودتهم بالآتى:
“مصر تعد النيل ربًّا ساميًا * فاجعل لنا بالفيض حظًّا ناميا”.
كل عام ونيلك بخير يامصر كل عام ونيلك بيجرى فى دمانا لاتقيده حدود ولا تمنعه سدود.