د. قاسم المحبشى يكتب: المثقف العربي الجديد (١من٢)
منذ أيام قليلة شاركت في ندوة وحدة الدراسات اللغوية والأدبية في المعهد العالمي للتجديد العربي وعنوانها: “المثقف العربي الجديد”.
ندوة رائعة أدارها الأستاذ الدكتور عماد محنان أستاذ اللغات التطبيقية والإعلامية وتحدثت فيها الأستاذة الدكتورة هدى عبد روائية واستاذة النقد الأدبي الحديث، وعقب عليها الأستاذ المشارك الدكتور منصف شعرانة أستاذ الأدب والنقد الأدبي المشارك.
على مدى ساعة ونصف دار النقاش حول أزمة الثقافة العربية ودور والمثقفون العرب في تجاوزها.
استمعت باهتمام إلى المداخلات الغنية بالرواء والأفكار المهمة وتبادر إلى ذهني سؤال عن الدور المفترض للمثقف في المجتمع؟.
وقد سبق وأن بحثت عن دور المثقف في الحضارة العربية الإسلامية وكانت النتيجة مخيبة للآمال.
إذ أن النخب الاجتماعية لا توجد كما توجد النباتات والأشجار في الغابات بل تتولد في خضم الممارسة الاجتماعية وشبكة علاقات القوة والمعرفة. ومفاد النظرية هو أن الوظيفة تخلق العضو وأن لا سلطة إلا بوظيفة، ولا وظيفة إلا بدور اجتماعي معترف به ومقدر تقديرا إيجابيا في المجتمع المعني.
ويمكن ضرب مثال لذلك من المجال العلمي الأكاديمي، إذ أن تكون عالمًا يعني أن تنتمي إلى إطار اجتماعي متشكل من مجموع الفاعلين المشتغلين في النشاط العلمي؛ أي ( الجماعة العلمية) ويعني ثانيا: أن يتم اختيارك وإدماجك في نسق يقيم فاعلوه علاقات ترابط وفق طرائق تتوافق مع مبادئ مهنية معيارية مخصوصة، وهو يعني أخيرا أنك موضوع لمراقبة اجتماعية، داخل المؤسسة، وأن عليك إتقان الدور الاجتماعي المقدر إيجابيا في الجماعة العلمية.
ويرى الكثير من الباحثين أن النقطة المركزية في دراسة نمو العلم تتصل بوجود دور العالِم المعترف به والمقدر تقديراً إيجابياً في ثقافة المجتمع المعني وهذا معناه أن المشتغلين في العلم والثقافة العلمية ليسوا أشخاصاً معزولين عن مجتمعهم، بل هم فاعلون ثقافيون يعتمد وجودهم واستمرار نشاطهم على شبكة واسعة من الدعم والإسناد المؤسسي على شكل فرص للتعليم والبحث العلمي وقنوات لمناقشة نتائج أبحاثهم ونشرها، والتقبل والاعتراف الاجتماعي الضمني بهم بصفتهم علماء يحظون بالقيمة والتقدير الإيجابي في مجتمعهم.
وأخيرا الجزاءات التي ينالونها مقابل القيام بأدوارهم المتعددة، دور المعلم أو الأستاذ ودور الباحث العلمي ودور العضو في القسم العلمي ودور المدير أو العميد الإداري, ودور المناقش أو المحكم العلمي في إجازة الأبحاث والأطاريح العلمية أو حارس البوابة.
يعد مدخل الدور الاجتماعي للعالِم من أهم الأنساق المفتاحية في فهم وتفسير سوسيولوجيا النخب، إذ “أن استمرار نشاطا اجتماعيا ما على مدى فترات زمنية طويلة، بغض النظر عن تغيير ممارسي هذا النشاط، يعتمد على ظهور أدوار اجتماعية لتمكين استمرار وترسيخ ذلك النشاط، وقواعده، وقيمه، ومعاييره، وعلى فهم فئة اجتماعية لهذه الأدوار وتقييم المجتمع الإيجابي لها؛ أي منحها مشروعية وقيمة مقدرة خير تقدير”.
ومعنى الدور هو “ما يتوقع من شخص أو عدة أشخاص بوصفهم ( جماعة منظمة) القيام به مؤسسيا بصفتهم أعضاء فاعلين داخل الأنساق المختلفة للمؤسسة المعنية ، وبهذا المعنى يختلف (الدور) عن (الوضع) إذ إن الوضع يشير إلى الجزاءات التي ينالها هؤلاء الفاعلون لقاء القيام بأدوارهم، وهكذا فإن مصطلح (دور) يحدد الوظيفة ومصطلح (وضع) يحدد الموقع التراتبي لوحدة ما في نسق اجتماعي ويرى عالم اجتماع العلم زنانييكي أن الشخص الذي يقدر له إنتاج المعرفة يمارس أدوارًا متعددة ومتكاملة منها: “دور الباحث، ودور المدرس، ودور الإداري، ودور المشرف العلمي، أو (حارس البوابة)، ولكل دور من هذه الأدوار قيمه ومعاييره المحددة بشفافية” وهكذا يصف الدور الاجتماعي للعالِم: مجموع الوظائف النسقية المعترف بها اجتماعياً بوصفها وظائفا وأدوارًا مشروعة ومقدرة اجتماعيا خوّل لفئة من أفراد المجتمع النهوض بها، والتي بفضلها منحوا اسمهم وصفتهم المهنية (علماء) لقاء ممارستهم نشاطاتهم وفق معاييرها وقيمها المهنية الخاصة بصفتهم جماعة أو مؤسسة علمية، والتي لا يكون المرء عالماً إلا بها. ومن منظور العلاقة الجدلية بين المعرفة والسلطة، فمن المحتمل أن غياب دور العلماء والفلاسفة والمثقفين في المجتمع العربي وتهميش قيمتهم ومكانتهم الاجتماعية بالقياس إلى الحضور الطاغي لنخب (السياسيين والملوك والفقهاء ووعاظ السلاطين والعسكريين وشيوخ القبائل وزعماء الطوائف) وغيرهم من النخب التقليدية الذين مازالوا يشغلون أدوارا اجتماعية بالغة التأثير والنفوذ ويتمتعون بقيمة ومكانة اجتماعية عالية ومقدرة خير تقدير في مجتمعاتنا. في حين إن المشتغلين بالمعرفة العلمية والفكر والثقافة مازالوا يعانون من عدم الاعتراف بدورهم الاجتماعي والمهني. وهذا يعبر عن تدني الوعي العام بقيمة الإنسان وحقوقه الأساسية بوصفه معياراً وهدفاً وغاية للتنمية المستدامة، كما أشار امارتيا صن “أن حرية الإنسان هي الغاية والهدف الأسمى لكل تنمية ممكنة، ذلك أن الحرية تعني المقدرة على الفعل والاختيار والتفكير والإبداع” والحرية هي الشرط الجوهري لنمو العلم والنخب العلمية “وحاجة العلم إلى الحرية، مثل حاجة النباتات التي تنمو في البيوت الزجاجية إلى الشمس والأكسجين، أما إذا طليت النوافذ بالسواد كما في الحروب، فلا تنمو إلا الأعشاب الطفيلية الضارة، والإبداع العلمي يتيبس في البيئات الاستبدادية والتسلطية” في ضوء ما تقدم يمكن القول، أنه بقدر ما يوجد في المجتمع من مجالات نشاط متمايزة ومستقلة بقواعد لعبتها الخاص بالمعنى البوردي_ نسبة إلى بيير بورديو، صاحب نظرية المجال التي ضمنها في كتابه، قواعد الفن – إذ يؤكد بورديو أن الأمر الجوهري فى سوسيولوجيا نخبة الفن والأدب هو ذلك المجال الاجتماعي المزود بتقاليده الخاصة , وقوانين سيره وقواعد الالتحاق به. وليس استقلال الأدب والأديب باعتباره أمرا بديهيا باسم إيديولوجيا العمل الفني بوصفه خلقا أو إبداعا , فالاستقلال النسبي لهذا الحيز من الممارسة والمجال الذي تأسس تدريجيا , وفى شروط معينة عبر التاريخ هو مناط النوعية الأدبية، لكن موضوع الدراسة هو مجمل العلاقات الموضوعية بين الأديب والأدباء الآخرين حول العلاقات بين المواقع والمراكز المختلفة لجوهر الفنون والعلاقات بين التطبيع والمواقع الفنية النافذة للمجتمع ووراء تلك العلاقات مجموعة من العناصر الفاعلة المرتبطة بإنتاج العمل وإنتاج القيمة الفنية التي تخلف إبداعا وتراثا فريدا للحضارات.
وللكلام بقية.. فانتظرونى فى جزء ثان