تقرير | أزمة الغواصات الأسترالية.. وازدواجية المبادئ الأمريكية
تقرير يكتبه: هاني الجمل
لا توجد صداقة دائمة ولا عداوة دائمة في العلاقات الدولية ولكن توجد مصالح دائمة “. ربما تنطبق تلك المقولة على الخلاف الذي الناشب حالياً بين فرنسا من جهة والولايات المتحدة الأمريكية وأستراليا وانجلترا من ناحية أخرى ، حول ما يعرف بأزمة الصواريخ الاسترالية ودخول واشنطن على الخط لخطف الصفقة المقدر قيمتها ب 66 مليار دولار أمريكي مع مجموعة نافال الفرنسية لبناء أسطول يتكون من 22 غواصة تقليدية.
الخطوة الامريكية المدعومة بريطانياً ، أحدثت كما يرى كثير من المراقبين شرخاً كبيراً في جدار العلاقات الفرنسية الأمريكية والاسترالية ، حيث وصف وزير الخارجيّة الفرنسي جان إيف لودريان القرار الأسترالي بأنه “طعنة في الظهر، واتهم إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن باتباع نهج سلفه دونالد ترامب”. وقال ” لقد حصل كذب، حصلت ازدواجيّة، حصل تقويض كبير للثقة، حصل ازدراء، لذا فإنّ الأمور بيننا ليست على ما يرام”. وطالب وزير الخارجية الفرنسي أوربا بان يكون لها “بوصلتها الاستراتيجيّة، وسيكون ذلك تحت مسؤوليّة فرنسا في النصف الأوّل من 2022″، في إشارة إلى الرئاسة الفرنسيّة للاتّحاد الأوروبي اعتباراً من الأوّل من يناير المقبل. واعتبر أنّه بعد الانسحاب المتسرّع للأميركيّين من أفغانستان، من دون التشاور مع الحلفاء، وبعد ملفّ الغواصات، “إذا أراد الأوروبّيون أن يبقوا حاضرين في التاريخ، فعليهم أن يتّحدوا ويدافعوا معاً عن مصالحهم، عندها سيكون مصيرهم مختلفاً تماماً”. وعن دور لندن في الاتّفاقية الجديدة التي تمّت في عهد رئيس الوزراء بوريس جونسون، قال لودريان إنّ “بريطانيا، في هذا الأمر برمّته، تُشبه إلى حدّ ما العجلة الثالثة”، أي لا دور لها وإنما تسير خلف واشنطن. كما لم يُبدِ وزير الخارجيّة الفرنسي أيّ مؤشّر إلى اتّجاه فرنسي نحو تهدئة للأزمة، مستخدماً لغة غير دبلوماسيّة واضحة تجاه أستراليا والولايات المتحدة وكذلك بريطانيا.
وفي المقابل حاولت الإدارة الأمريكية التخفيف من الآثار المحتملة للغضب الفرنسي، حيث أعرب مسؤول في البيت الأبيض عن ” أسفه” لاستدعاء السفير الفرنسي في واشنطن ، لكنّه قال “سنواصل العمل في الأيام المقبلة لحل خلافاتنا كما فعلنا في محطات أخرى على مدى تحالفنا الطويل” . أمًا استراليا فبررت على لسان وزير دفاعها بيتر دوتون انسحابها من الصفقة الفرنسية بالقول ” إن حكومته كانت “صريحة وواضحة وصادقة مع فرنسا بشأن ترددها حيال الصفقة، التي تجاوزت قيمتها الميزانية، وستتأخر لسنوات عن الجدول الزمني المقرر. وذكر دوتون أنه يدرك أن “فرنسا ممتعضة”، لكنه أضاف أن “الإشارات التي تتحدث عن عدم إبلاغ الحكومة الأسترالية الجانب الفرنسي بمخاوفها تتعارض، بكل صراحة، مع السجلات العامة، وبكل تأكيد ما قيل علنا على مدى فترة طويلة”. وأضاف “نظراً لتغير الظروف في منطقة المحيط الهندي ، ليس الآن فحسب بل على مدى السنوات المقبلة، كان علينا اتخاذ قرار يصب في مصلحتنا الوطنية وهو تماماً ما قمنا به، حيث تعمل الغواصات الفرنسية بالطاقة النووية وتحتاج للشحن، بخلاف الأميركية، مما يجعل الأخيرة مناسبة أكثر لأستراليا غير النووية”.
ويرى المراقبون أن التحالف الجديد الذي يضم الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وأستراليا يستهدف في المقام الأول مواجهة الصعود الكبير للصين في هذه المنطقة .
وحول احتمال تأثر حلف شمال الأطلسي (ناتو) بالخلاف بين فرنسا والولايات المتحدة وأستراليا بشأن صفقة الغواصات، استبعد مسؤول بالحلف أن يكون لتلك الخطوة تأثير على ” التعاون العسكري” داخله . وقال الأدميرال روب باور رئيس اللجنة العسكرية للناتو” قد تكون هناك تداعيات أو عواقب نتيجة لهذا الاتفاق، لكنني لا أتوقع في الوقت الحالي أنه سيكون له تأثير على التماسك داخل الناتو.
وباستدعاء فرنسا لسفيرها في واشنطن يمكن القول إن باريس لم تعمد استدعاء سفرائها سوى مرتين: الأولى، من روما، في شهر فبراير من عام 2019، احتجاجاً على لقاء بين نائب رئيس الوزراء الإيطالي لويجي دي مايو (وزير الخارجية الحالي) مع ممثلين عن حركة «السترات الصفراء»، الأمر الذي اعتبرته باريس وقتها بمثابة ” بادرة استفزازية”، والمرة الثانية، من أنقرة، في شهر أكتوبر من العام الماضي، للتنديد بتصرفات رئيس الجمهورية التركية رجب طيب أروغان وتصريحاته التي شكك فيها بـ” صحة الرئيس ماكرون العقلية” ، واعتبرتها فرنسا ” مهينة ولا يمكن القبول بها” بحق رئيسها. وبالتالي فإن خطوة استدعاء السفير الفرنسي في واشنطن تؤكد الغضب الفرنسي الكبير من الخطوة الأمريكية التي وصفها وزير خارجيتها بأنها ” طعنة أمريكية في الظهر”.
القراءة المتروية لمفردات البيان الفرنسي تؤكد أنه تميز” بالقوة والصرامة ” لأنه موجه إلى دولتين حليفتين لباريس الأولى: الولايات المتحدة التي ترتبط بها بعلاقة تاريخية تعود لما قبل قيامها كدولة نظراً للدور الذي قامت به القوات الفرنسية الملكية في مساعدة الثوار الأميركيين في حربهم ضد المستعمر الإنجليزي. وتكفي زيارة منطقة نورماندي (شمال غرب فرنسا) وتحديداً مقابر الجنود الأميركيين الذين سقطوا في معارك الإنزال ضد المحتل الألماني للتثبت من أهمية رابطة الدم. ثم إن باريس وواشنطن عضوان رئيسيان في الحلف الأطلسي وشريكان سياسيان ودبلوماسيان وعضوان رئيسيان في مجلس الأمن. ويرى المراقبون في باريس أن الأزمة الراهنة مع واشنطن تذكر بالأزمة التي نشبت بين الطرفين في عام 2003 بخصوص غزو العراق الذي كانت تخطط له واشنطن ولندن بحجة إخفائه أسلحة دمار شامل ” نووية وكيميائية” ، وحينها وإبان ولاية الرئيس الأسبق الديغولي جاك شيراك هددت باريس باللجوء إلى حق النقد (الفيتو) ضد أي قرار يقدم بهذا المعنى إلى مجلس الأمن الدولي، ولكن الغزو حصل من غير قرار جديد من الأمم المتحدة والنتيجة كانت قطيعة أميركية فرنسية ودعوات لمقاطعة البضائع الفرنسية.
ويتذكر الجميع أن الأميركيين قاموا بإعادة تسمية البطاطس المقلية بالتخلي عن تسمية ” البطاطس الفرنسية” لصالح ” بطاطس الحرية”. أمّا بالنسبة لأستراليا، فلأنها شريك متعدد الصفات بالنسبة لباريس التي كانت تعول على ” صفقة القرن” الممتدة إلى خمسين عاماً، لتوثيق وتعزيز علاقاتها مع أستراليا القريبة من ممتلكاتها في كاليدونيا الجديدة، المشكَّلة من مجموعة جزر والواقعة في جنوب المحيط الهادئ. وفي السنوات الأخيرة، تكاثرت الزيارات بين الطرفين وتحوّلت أستراليا إلى أحد أركان الدبلوماسية الدفاعية التي تعتمدها باريس المعنية مباشرة بما يحصل في هذه المنطقة، بما في ذلك مواجهة التمدد الصيني الذي تم إيجاد الشراكة الاستراتيجية الجديدة من أجل مواجهته.
وفي النهاية يبقى تساؤل.. ماهي الإجراءات التي يمكن أن تلجأ إليها فرنسا لمواجهة التحالف الأمريكي البريطاني الأسترالي الجديد ؟ ربما تكشف الأيام القليلة القادمة طبيعة هذه الإجراءات وما علينا إلّا الانتظار.