د. قاسم المحبشى يكتب: بين جان بول سارتر وهابرمانس

وأنا اتابع أزمة جائزة يورجن هابرمانس الخليجية تذكرت جان بول سارتر الذي رفض استلام جائزة نوبل عام ١٩٦٤م إذ تناقلت الأخبار رفض الفيلسوف الألماني الشهير يورغن هابرماس، قبول جائزة الشيخ زايد للكتاب التي يقدمها مركز أبو ظبي للغة العربية التابع لدائرة
وبرّر الفيلسوف الألماني قرار رفضه للجائزة التي تبلغ قيمتها 225 ألف يورو، بالقول إنه ” أن مبادئه الديمقراطية التي يتبناها ودعا إليها تتناقض والنظام السياسي الإماراتي.”
ويعتبر هابرماس واحداً من أشهر الفلاسفة الذين ما زالوا على قيد الحياة، في العالم، وألف العديد من الكتب طوال مسيرته الفكرية التي امتدت لأكثر من نصف قرن.
من الواضح أن رفض هابرمانس لجائزة دبي ترسم أفق الهوة الحضارية والثقافية بين السياقين العربي والغربي، ففي العالم العربي قلما يرفض أحد جائزة كهذه.
بينما في الحضارة الغربية الحديثة تتموضع الجائزة في البنية الكلية للنظام العام. وينطلق قبولها أو رفضها من منظومة كلية للقيم والمبادئ الديمقراطية الفعلية أو المتخيلة التي يؤمن بها الفلاسفة. فهي ليس مجرد قيمة مالية بل تكمن اهميتها في قيمتها الرمزية. واتذكر أنني في دراستي لحياة جان بول سارتر وقفت عن تلك الواقعة التي اثارت دهشتي حينما علمت أنه رفض استلام جائزة نوبل الأعلى عالميا.
إذ كتب الفيلسوف حينما ما يلي” أنني إذ رفضها فلم أفعل شيء ينقص من حريتي بينما لو قبلتها فقد جعلت النظام الذي رفضه يستردني” إذا لم تخني الذاكرة! ففى 22 أكتوبر 1964 كان المثقفون والصحفيون فى العالم على موعد مع أمر غريب، فقد رفض الفيلسوف الفرنسى الشهير جان بول سارتر جائزة نوبل فى الأدب.
ويعد سارتر، الذى كان فى تلك الفترة واحدا من أشهر المثقفين ليس فى فرنسا فقط، لكن فى العالم كله بكتبه الفلسفية ومسرحياته التطبيقية لفلسفته الوجودية، بهذا الفعل أول من رفضها فى مجال الأدب، وكان سارتر قد أرسل خطابا إلى الأكاديمية السويدية يعلمهم بعدم ترشيح اسمه فى الجائزة، لكن الخطاب وصل متأخرا قرابة شهر، وكان اسم سارتر هو الفائز.
يقول مؤرخو الثقافة عن ذلك اليوم إن الفيلسوف الفرنسى كان يأكل فى أحد المطاعم قرب منزله فى باريس، حين اتصلت به فرانسواز دو كلوزيه الصحفية فى وكالة “فرانس برس” لإبلاغه أنه نال جائزة “نوبل”. فأجاب سارتر “أنا أرفض الجائزة، وسأحتفظ بأسبابى وراء ذلك لأقولها للصحافة السويدية”ويومها تساءل الناس لماذا رفض سارتر هذه الجائزة، وأجاب الفيلسوف عن السؤال، لكن الناس لم يقتنعوا، لأن الإجابة تحمل قدرا كبيرا من الفلسفة فقد جاء رفض الفيلسوف الفرنسى جان بول سارتر للجائزة واضحاً فى إصراره على التحقق الوجودى، وأهمية أن يتم هذا التحقق بتعميق الرؤية الداخلية للذوات الإنسانية، وليس بالبحث عن تضخيم حيز الجائزة، والابتعاد عن المعنى الفعلى للمتعة التى يستشعرها الإنسان طوال رحلة إبداعه.
كان سارتر يخاف أن يدفن حيا قبل أن يتم مساره، على حد قوله، وكان ينظر إلى الجوائز على أنها “قبلة الموت” كما أنه بنى كل أفكاره على نقد المؤسسات، فكيف يتجاوب معها بالحصول على جائزة.
المهم أن سارتر أصر على موقفه، رغم أن لجنة الجائزة اعتبرته فائزا وقضى الأمر، فلم يحضر الحفل التقليدى فى العاشر من ديسمبر من العام نفسه، ورفض استلام قيمة الجائزة وكانت 273 ألف كورون سويدى.
وبالمقارنة بين الفيلسوفين الفرنسي والألماني تتضح صورة المثقف الذي يعرف عن ماذا يتحدث، وهذا يحيلنا إلى معنى النخب في المجتمعات الإنسانية إذ أن هذه النُّخب تعمل بشكل مشترك، وضمن تصور متجانس على توجيه الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية في المجتمع”و تجدر الإشارة إلى أن هذا المنظور يستلهم نظرية الدور الاجتماعي التي تفسر المقومات التاريخية والثقافية لتشكل النخب الاجتماعية. إذ أن النخب الاجتماعية لا توجد كما توجد النباتات والأشجار في الغابات بل تتولد في خضم الممارسة الاجتماعية وشبكة علاقات القوى المهيمنة.
ومفاد النظرية هو أن الوظيفة تخلق العضو وأن لا سلطة إلا بوظيفة، ولا وظيفة إلا بدور اجتماعي معترف به ومقدر تقديرا ايجابيا في المجتمع المعني.
ويمكن ضرب مثال لذلك من المجال العلمي. أن تكون عالمًا يعني أن تنتمي إلى إطار اجتماعي متشكل من مجموع الفاعلين المشتغلين في النشاط العلمي؛ أي ( الجماعة العلمية) بمعنى الانتماء إلى (مجال اجتماعي) مؤسسة محددة، يمكن تمييزها عن بقية المؤسسات الاجتماعية. ويعني ثانيا: أن يتم اختيارك وإدماجك في نسق يقيم فاعلوه علاقات ترابط وفق طرائق تتوافق مع مبادئ مهنية معيارية مخصوصة، وهو يعني أخيرا أنك موضوع لمراقبة اجتماعية، داخل المؤسسة، وأن عليك إتقان الدور الاجتماعي المقدر إيجابيا في الجماعة العلمية.
ويرى الكثير من الباحثين أن النقطة المركزية في دراسة نمو العلم تتصل بوجود دور العالِم المعترف به والمقدر تقديراً إيجابياً في ثقافة المجتمع المعني وهذا معناه أن المشتغلين في العلم ليسوا أشخاصاً معزولين عن مجتمعهم، بل هم فاعلون ثقافيون يعتمد وجودهم واستمرار نشاطهم على شبكة واسعة من الدعم والإسناد المؤسسي على شكل فرص للتعليم والبحث العلمي وقنوات لمناقشة نتائج أبحاثهم ونشرها، والتقبل والاعتراف الاجتماعي الضمني بهم بصفتهم علماء يحظون بالقيمة والتقدير الايجابي في مجتمعهم. وأخيرا الجزاءات التي ينالونها مقابل القيام بأدوارهم المتعددة، دور المعلم أو الأستاذ ودور الباحث العلمي ودور العضو في القسم العلمي ودور المدير أو العميد الإداري, ودور المناقش أو المحكم العلمي في إجازة الأبحاث والأطاريح العلمية أو حارس البوابة.
يعد مدخل الدور الاجتماعي للعالِم من أهم الأنساق المفتاحية في فهم وتفسير سوسيولوجيا النخب، إذ “أن استمرار نشاطا اجتماعيا ما على مدى فترات زمنية طويلة، بغض النظر عن تغيير ممارسي هذا النشاط، يعتمد على ظهور أدوار اجتماعية لتمكين استمرار وترسيخ ذلك النشاط وقواعده وقيمه ومعاييره، وعلى فهم فئة اجتماعية لهذه ألأدوار وتقييم المجتمع الإيجابي لها؛ أي منحها مشروعية وقيمة مقدرة خير تقدير” ومعنى الدور هو “ما يتوقع من شخص وعدة أشخاص بوصفهم ( جماعة منظمة) القيام به مؤسسيا بصفتهم أعضاء فاعلين داخل الأنساق المختلفة للمؤسسة المعنية ، وبهذا المعنى يختلف (الدور) عن (الوضع) كما ذهب جوزيف بن دافيد في كتابه (دور العالم في المجتمع)؛ إذ إن الوضع يشير إلى الجزاءات التي ينالها هولاء الفاعلون لقاء القيام بأدوارهم، وهكذا فإن مصطلح (دور) يحدد الوظيفة ومصطلح (وضع) يحدد الموقع التراتبي لوحدة ما في نسق اجتماعي.
ويرى عالم اجتماع العلم زنانييكي أن الشخص الذي يقدر له إنتاج المعرفة يمارس أدوارًا متعددة ومتكاملة منها: “دور الباحث، ودور المدرس، ودور الإداري، ودور المشرف العلمي، أو (حارس البوابة)، ولكل دور من هذه الأدوار قيمه ومعاييره المحددة بشفافية” وهكذا يصف الدور الاجتماعي للعالِم: مجموع الوظائف النسقية المعترف بها اجتماعياً بوصفها وظائفا وأدوارًا مشروعة ومقدرة اجتماعيا خوّل لفئة من أفراد المجتمع النهوض بها، والتي بفضلها منحوا اسمهم وصفتهم المهنية (علماء) لقاء ممارستهم نشاطاتهم وفق معاييرها وقيمها المهنية الخاصة بصفتهم جماعة أو مؤسسة علمية، والتي لا يكون المرء عالماً إلا بها.
وربما كان غياب هذا الدور في الثقافة العربية الإسلامية سبباً من أسباب تخلف الإنسان والمجتمع ومن ثم تخلف العلم عامة والعلوم الإنسانية والاجتماعية خاصة، ومن منظور العلاقة الجدلية بين المعرفة والسلطة، فمن المحتمل أن غياب دور العلماء وتهميش قيمتهم ومكانتهم الاجتماعية في المجتمعات العربية الإسلامية التقليدية بالقياس إلى الحضور الطاغي لفئات اجتماعية أخرى أمثال: المشتغلين في مجالات الايديولوجيا السياسية والسلطة والفقهاء ووعاظ السلاطين والعسكريين وشيوخ القبائل وزعماء الطوائف وغيرهم من النخب التقليدية الذين مازالوا يشغلون أدوارا اجتماعية بالغة التأثير والنفوذ ويتمتعون بقيمة ومكانة اجتماعية عالية ومقدرة خير تقدير، في حين ان المشتغلين بالمعرفة العلمية والمؤسسات الأكاديمية مازالوا يعانون من عدم الاعتراف بدورهم الاجتماعي والمهني.
وهذا يعبر عن تدني الوعي العام بقيمة الإنسان وحقوقه الأساسية بوصفه معياراً وهدفاً وغاية للتنمية المستدامة، كما أشار امارتيا صن “أن حرية الإنسان هي الغاية والهدف الأسمى لكل تنمية ممكنة، ذلك أن الحرية تعني المقدرة على الفعل والاختيار و التفكير والإبداع” وحينما يصبح العلم مؤسسة اجتماعية مستقلة كما كانت الجمعية الملكية للعلوم التي تأسست في لندن عام 1645م وهي أول مؤسسة علمية رسمية أكأديمية العلوم في باريس، عام 1662م فضلا عن المؤسسات الجامعية، فهذا معناه مرحلة حاسمة في نشوء وازدهار الدور الاجتماعي للنخبة والمؤسسات الأكاديمية والعلمية في مجتمعاتنا العربية. والأكاديمية تعني حرية التفكير والتعبير والاختلاف والتعليم وأن هيئة التدريس في الجامعة تتمتع بحق تدريس ما تعتبره صحيحاً وأنه ليس هناك قيود على ما يقوله الأستاذ أو يكتبه أو ينشره.
ويرتكز هذا الحق على قدسية الحقيقة العلمية ،من ناحية، ومسؤولية المدرس في معرفة هذه الحقيقة وحقه في نقدها أو مناقشتها، دون إي قيود، من ناحية أخرى. ونعتبر حرية الجامعة واستغلالها من التقاليد التي ورثتها الجامعات الحديث والمعاصرة عن جامعات العصر الوسيط إذ أن الحرية هي الشرط الجوهري لنمو العلم والفكر العلمي، ” وحاجة العلم إلى الحرية، مثل حاجة النباتات التي تنمو في البيوت الزجاجية إلى الشمس والأكسجين، أما إذا طليت النوافذ بالسواد كما في الحروب، فلا تنمو إلا الأعشاب الطفيلية الضارة، والإبداع العلمي يتيبس في البيئات الاستبدادية والتسلطية” .
وفي ضوء ما تقدم يمكن القول، أنه بقدر ما يوجد في المجتمع من مجالات نشاط متمايزة ومستقلة بقواعد لعبتها الخاص بالمعنى البوردي – نسبة إلى بيير بورديو، صاحب نظرية المجال التي ضمنها في كتابه، قواعد الفن – إذ يؤكد بورديو أن الأمر الجوهري فى سوسيولوجيا نخبة الفن والأدب هو ذلك المجال الاجتماعي المزود بتقاليده الخاصة , وقوانين سيره وقواعد الالتحاق به . وليس استقلال الأدب والأديب باعتباره أمرا بديهيا باسم إيديولوجيا العمل الفني بوصفه خلقا أو إبداعا , فالاستقلال النسبي لهذا الحيز من الممارسة والمجال الذي تأسس تدريجيا , وفى شروط معينة عبر التاريخ هو مناط النوعية الأدبية.
لكن موضوع الدراسة هو مجمل العلاقات الموضوعية بين الأديب والأدباء الآخرين حول العلاقات بين المواقع والمراكز المختلفة لجوهر الفنون، والعلاقات بين التطبيع والمواقع الفنية النافذة للمجتمع . ووراء تلك العلاقات مجموعة من العناصر الفاعلة المرتبطة بإنتاج العمل وإنتاج القيمة الفنية التي تخلف إبداعا وتراثا فريدا للحضارات.

زر الذهاب إلى الأعلى