لواء دكتور سمير فرج يكتب: في ذكرى ميلاد محمد حسنين هيكل
إنه “الأستاذ” … الأستاذ محمد حسنين هيكل، أحد عظماء تاريخ مصر الحديث، وأعظم الكتاب الصحفيين، ليس في بلاط صاحبة الجلالة المصرية، فحسب، وإنما على المستوى العربي والدولي.
عرفت اسمه منذ طفولتي، في ظروف غير سعيدة؛ فلم أكن، حينها، مدركاً لقدره ومكانته، إذ كان والدي، رحمة الله عليه، يوقظني مبكراً، في إجازتي المدرسية، يوم الجمعة، لشراء صحيفة الأهرام العريقة، ليقرأ مقال “الأستاذ” الأسبوعي “بصراحة”، وهو يحتسي فنجان القهوة، السابق للإفطار. فلقد كان لذلك المقال الأسبوعي، ثقل خاص، في عالم الصحافة المصرية والعربية، وهو ما أضفى ميزة كبيرة على صحيفة أهرام يوم الجمعة. ترجع أهمية المقال لقرب الأستاذ محمد حسنين هيكل من الرئيس الراحل عبد الناصر، ورجال ثورة 52، مما أطلعه على الكثير من المعلومات، التي انفرد بها عن غيره، وهو ما استفاد به من خلال قدراته الفريدة على التحليل السياسي، بما جعل من مقال سيادته، مصدراً هاماً، لجموع الشعوب العربية، لفهم الأحداث وعلاقاتها السياسية والدولية المتشابكة.
اقرأ أيضا.. د.سمير فرج: لولا المشير طنطاوي لشهدت مصر أحداث سوريا العراق
ومرت الأيام والتحقت بالكلية الحربية، واختلفت أسباب استيقاظي مبكراً يوم الجمعة، وما أن تخرجت حتى ذهبت إلى اليمن، للمشاركة في حربها، فلم يكن لنا سبيلاً للحصول على الصحف، إلا أنه كان الكاتب الوحيد، في تاريخ مصر، الذي يُقرأ مقاله الأسبوعي “بصراحة”، على إذاعة صوت العرب، في السادسة من مساء يوم الجمعة. فكانت تلك فرصتنا، أنا وضباط الكتيبة، أن نلتف حول الراديو، في تلك اللحظات، لنستمع إلى مقال الأستاذ هيكل، لنتعرف من خلاله على طرح وفكر القيادة السياسية في مصر.
وعدنا إلى مصر، بعد حرب اليمن، للمشاركة في حرب 67، وكان الأستاذ هيكل أول من استخدم لفظ “النكسة”، للتعبير عن نتائجها. وتوجهت كتاباته، بعدها، لانتقاد القوات المسلحة، ورغم أن نقده كان موجهاً للقيادات، إلا أنه كان سبباً في غضبي، مرة أخرى، لما رأيته في ذلك من تجاهل لإيجابيات تلك الحرب، مثل استبسال وتضحيات المقاتلين، رغم مرارة النتيجة، ومع ذلك، لم يمنعني غضبي من انتظار الاستماع إلى مقاله، مساء كل جمعة، إذ لم تكن الصحف تصلنا على الجبهة.
وبعد ست سنوات، بدأت حرب أكتوبر 73، المجيدة، وشاء القدر أن أتواجد في غرفة عمليات القوات المسلحة، فرأيت الأستاذ هيكل، لأول مرة، وجهاً لوجه، عندما استدعاه الرئيس الراحل أنور السادات، ليتابع التوجيه الاستراتيجي، الذي وقعه الرئيس السادات كمهمة للقوات المسلحة لبدء هذه الحرب، حيث كلفه بمراجعة الجانب السياسي في هذا التوجيه، فتابعت، عن قرب، هذا الرجل العظيم، وهو يتفانى في عمله، وحبه لوطنه، من خلال لقاءاته مع الفريق الشاذلي واللواء الجمسي، ليشرحوا له الخطة جرانيت، وسير أعمال القتال، تلك اللقاءات التي تكررت في غرفة عمليات الحرب، لمتابعة ومناقشة القادة فيما يتم على الجبهة.
وانتهت الحرب بانتصار قواتنا الباسلة، وابتعثت، بعدها بعامين، للدراسة بكلية كمبرلي الملكية في إنجلترا، فاستننت سنة، بأن أخصص يوم الأحد، من عطلة نهاية الأسبوع، لزيارة متاحف لندن، التي تفتح أبوابها بالمجان في ذلك اليوم. وفي أحد تلك المرات، وبينما أنا خارج من محطة مترو الأنفاق “الهايد بارك كورنر”، سمعت الصبي الإنجليزي، بائع الصحف، ينادي “Sunday Times … Road to Ramadan … Heikal”، أو “جريدة الصن داي تايمز … الطريق إلى رمضان … هيكل”، فاستوقفني النداء، واقتربت منه لاستوضح ما يقصده، ففوجئت أن الكتاب الجديد، حينها، للأستاذ هيكل، “الطريق إلى رمضان”، يتم نشره، تباعاً، في العدد الأسبوعي لأهم جريدة لندنية، صن داي تايمز.
لم تكن تلك المفاجأة الوحيدة، في ذلك اليوم، ففي المساء، بينما أتابع النشرة الإخبارية، على قنوات الشبكة الرئيسية للتليفزيون البريطاني، BBC، إذا بالخبر الثالث فيها هو استقبال هيكل، في لندن، بمناسبة إصدار ذلك الكتاب، بالتعاون مع أهم صحيفة في إنجلترا، وذاعت القناة ردود أفعال الشارع الإنجليزي على ذلك الخبر، فشعرت بالفخر والعزة لما سمعته على ألسنتهم من تقدير واحترام لذلك الكاتب المصري، والصحفي العالمي، الذي تكررت زياراته إلى لندن للمشاركة في الندوات السياسية، وكانت أخباره تملأ قنوات BBC.
ومرت السنوات، وتابعت حلقات هيكل على قناة الجزيرة، وهو يحكي قصة ثورة 52، مدعومة بالوثائق الأصلية، ورغم حزني أن قناة الجزيرة هي التي قدمت تلك الحلقات، إلا أنها كانت تؤرخ لفترة عظيمة من تاريخ مصر. ومرت سنوات أطول، قبل أن ألتقيه، لثلاث مرات أخرى، وجهاً لوجه، في منزله الأنيق، على نيل القاهرة، بتكليف من المجلس العسكري، بعد أحداث يناير 2011، تلك اللقاءات التي استمتعت خلالها بآرائه الثاقبة، والتي أهداني في نهايتها كتبه الثلاثة الأخيرة.
وبعد تلك اللقاءات الشخصية، وبعد متابعة حواراته اللاحقة، مع الإعلامية المتميزة لميس الحديدي، عن أحداث 2011، تأكدت أنه من القلائل، في حياتي، ممن أنعم الله عليهم بذاكرة حديدية، وقدرة ثاقبة على ربط الأحداث وتحليلها، فكتبت، بعد رحليه، متمنياً أن تكون جميع وثائقه، قد حفظت بالطريقة السليمة، باعتبارها كنزاً من كنوز مصر السياسية، ولتخليد ذكراه كواحد من أبناء مصر المخلصين والمتميزين الذين تفخر مصر بهم … رحمة الله على الأستاذ محمد حسنين هيكل.
Email: [email protected]