فى ذكرى ميلاد سيد الخلق.. أُمُّ النُّور آمِنَةَ بِنْتَ وَهْبٍ (مشهد 1 من 3)
سرد إبداعى يكتبه: د. صلاح شفيع
وإنْ كان كذلك فمن يكون أحقَّ منه بالحَياة؟؟ ومن أكثر منه استحقاقاً أنْ يضنَّ أبوه به على الموت؟؟
تسمع زهرةُ قُرَيْش آمِنَةَ بِنْتَ وَهْب كلامَ أهلِّها عن الأمر، وتحجم أنْ تشارك في الحديث، فلا تملك سوى الإشفاق على هذا الفتى، وتخشى إنْ تحدَّثتْ أنْ يفسروا إشفاقها بأنَّها تعرفه أو بأنَّ بينهما شَيْئاً، لهذا لزمتْ الصمت، تسمع منهم وتردُّ داخل نفسها..
ـ واللهِ، إنَّه لحرامٌ أنْ يموت..
أليس في قُرَيْش رجلٌ رشيدٌ يردُّ هذا الشيخَ عن غيِّه؟؟ ألأنَّه يملك عشرةً من الأبناء ترخص عنده روحُ أحدهم ؟؟ لكنْ إنَّ الشيخَ حديثُ عهد بالزواج، وقد تزوَّج أختَها هالة هذا العام، ولا يتزوَّج شيخٌ بفتاة صغيرة إلا حبّاً في الولد، فكيف يستقيمُ له حبُّه في أنْ يكثر ولده، ثم في الوقت نفسِه يتخلَّص بسهولة من فتىً..
تمضي إلى أختها هالة أم حمزة زوجة الشيخ، كانتْ ترضع صغيرَها حمزةَ :
ـ تريدين أنْ تعرفي ما يشغلُ قُرَيْشاً، لماذا يذبح عَبْد الْمُطَّلِبِ ابنه؟؟
ـ ذلك لأنَّه أمرٌ غريب لم نعتدْ عليه..
ـ لكنَّ أبا الحارث يقول عجبتُ لقُرَيْش، تعجبُ مني لما تتفاخر به؟؟
ـ ماذا ؟
ـ نعم يا أختاه، قُرَيْش تتفاخر بأنها ذريَّة الذبيح إسماعيل الَّذِي أراد أبوه أنْ يذبحه فأطاعه ثم افتداه اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بالكبش الذِي مازالتْ قرونه في جوف البيت، وهل ما يفعله زوجي أبو الحارث إلا ما فعله من قبلُ أبونا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ؟؟
ـ كأنَّكِ ياهالة توافقينه على ما يفعل ؟؟!
ـ أبو الحارثِ أحكمُ هذه البلدة، لا يفعل إلا ما هو صواب، وقُرَيْش تعرف ذلك !
ـ لكنَّه ابنُه ؟ ألو أراد أنْ يذبح ابنكِ هذا …؟؟
ـ وماذا تفعل الْمَرْأَة ورجال كثيرون يئدون بناتهم أمام عينيها..؟؟ قد لا ترضى ولَكِنَّهَا لا تفعل شَيْئاًً.
ـ فهل ترضين وإن عجزتِ ؟
ـ فانظري الفتى نفسَه.. إنه راضٍ !
ـ ألا يجعل ذلك أباه يغيِّر رأيه ؟
ـ يا آمِنَةُ، هذا نذرٌ نذره الشيخُ، ويجب أنْ يوفِّيه، ويخشى سيِّدي أبو الحارث أن ينكثَ بنذره ضنّاً بابنه فيلتفَ الحنثُ حول عنقه، ويسلبه كلَّ ولده !
ـ أتريدين أنْ تقولي لي إنكِ تناقشين أبا الحارث ؟
ـ لا، لَكِنَّهُ كأنه يعتبرني قُرَيْشاً التي تتهمه صامتةً، فيردُّ عليها لي، يقول: يقولون أكره ولدي، وإنَّ قلبي كالصفا أو المروة، لَكِنَّهُ النذر، لو لم أوِّفِه لجرفهم جميعاً، فأنا أكثرُ شفقةً بولدي إذْ أذبح أحدهم لأفتدي الباقين!
وهل قُرَيْشٌ يا هالة ستكون أرحمَ بولدي مني؟ وهل قلبي من صخر وقلوب بني مخزوم أخوال عبد الله من ماء، واللهِ هم أقسى قُرَيْش قلباً!
والْحَقِيقَة يا آمنة لو وُضِع أبو الحارث في كفة ، ووضعت قُرَيْش في كفة في ميزان الرَّحِمة لرجحت كفته، كما أنَّ الشيخَ يا أختاه لم يختر ولداً بعينه، لقد اقترع عليهم، فخرج السهمُ عليه..
ـ وأُمُّه..؟؟
ـ لقد حاول أخوالُه من بَنِي مَخْزُوم مع أبي الحارث، فقال المغيرةُ له : والله لا تذبحه أبداً حتى تُعذَر فيه، فإن كان فداؤه بأموالنا فديناه .
لكنَّ بَنِي مَخْزُوم كلِّهم في قرارة أنفسهم يدرون أنَّهم لن يزحزحوه عن موقفه.. أتعرفين قصة النذر.. ؟؟
ـ لا..
ـ منذ سنين وكان أبو الحارث ليس متزوجاً إلا من زوجته الأولى سمراء أم الحارث وحيده وقتها، وكان الحارث فتىً، فجاءه في المنام من يدلُّه على مكان زمزم المفقودة من زمن طويل.
وبدأ الحفر هو وابنه وَحْدَهُمَا وسط سخريات قُرَيْش، سخرية تُذكِّر بما فعله قومُ نوح مع نوح عَلَيْهِ السَّلَامُ لما كان يبني سفينة في الصحراء، فكانوا يقولون له: هل ستحملُها على الجمال إلى الماء، أم ستأتي بالماء إليها ؟؟
ـ من علَّمكِ كلَّ هذا يا أختاه ؟
ـ أنسيتِ أني امرأة أبي الحارث حكيم مكَّةَ، وهل كبير مكَّةَ إلا كبير العرب كلهم ؟؟
ـ فأكملي..
ـ كما فعل قومُ نوح فعلتْ قُرَيْش مع أبي الحارث، هم أيضاً قالوا له: هل جاءكَ الوحي بأنَّها في هذا المكان ؟؟ أستجدُ زمزم أم هي التي تجدُكَ فلمَّا أنصفه اللهُ، وانبثق الماءُ، وظهرتْ الغزالاتُ الذهبية والسيوفُ الذهبية، وكما الحقُّ نصر نوحاً، كذلك كان نصر أبي الحارث.
وهنا بدلاً أنْ تعتذر قُرَيْشٌ له، لا، تبجحتْ معه، وأرادتْ أنْ تضع يدَها على الماء والكنز.
وفهم أبوالحارث بأن قُرَيْشاً استقللتْه لما كان لا يملك إلا ولداً واحداً، فاستعان بأخواله في يَثْرِب، وكادتْ تنشب حربٌ، لكنَّ الله أراد للبلد خيراً، ولانت قُرَيْش للصلح على أن يكون الذهبُ للبيت الحرام، والماء لعَبْد الْمُطَّلِبِ لكنْ لا يحجبه عن أحد.
هنا قرَّر سيدي أبو الحارث أنْ يكثر من الزوجات ليكثر له الأبناءُ، ونذر إنْ تجمَّع له عشرةُ رجال أمام عينيه ليذبحَّنَّ أحدَهم، فما رأيكِ ؟؟
ـ لم أكن أعرف ذلك !
ـ أأخبركِ بسرٍّ ؟؟
ـ سرٌّ ؟؟
ـ كان الشيخُ يميل لو كان الذبيح غير عبد الله، همس لي يوم الاقتراع أنَّه يخشى أن يكون عبد الله، وأنَّه لا يشغله أي ولده يقع عليه الرهان لو سَلِمَ عبد الله، ويوم خرج للاقتراع قال : وددتٌ لو يخرج الرهانُ على غيره، فلمَّا خرج الرهان عليه رجع آسفاً وقال كنتُ أشعر أنَّه هو !
ـ فكأنَّه حزينٌ عليه.. !
ـ هو أشبه بمن اختطف الموتُ أحبَّ أولاده، فهو حزينٌ حزنين، حزنٌ لفقد أحد ولده، وحزنٌ لأن الفقيد أوسطهم، ولعلَّه ينظر إلى سائر ولده، ويقول بينه وبين نفسه : ماذا لو كان أحدكم ؟؟ نعم حزينٌ ليس لأنه سيقتل ابنه، ولكن لأنَّه عبدالله، لكن أتعرفين يا آمنة ؟؟ أنتِ محظوظةٌ؟؟ وربِّ الْكَعْبَةِ محظوظة !
ـ أنا؟؟ لماذا ؟؟
ـ لأني هممتُ أنْ أشير على زوجي أبي الحارث أنْ يخطبكِ لعبد الله ابنه، وما أظنّهُ إلا كان سيوافق، وما تلكئِي إلا لأني كنتُ أشعر أنَّها ستأتي منه! ما بال وجهكِ قد أحمرَّ هكذا.. ؟؟ أنا لا أتحدث عن خطبة حقيقية! فما هو وإن كان على قيد الحَياة إلا ميتٌ ! ففيم الخجلُ ؟؟
أتعرفين لماذا كنتُ أتوقَّع أنَّ عَبْد الْمُطَّلِب سيخطبكِ له ؟؟ أيضاً احمرَّ وجهُكِ أكثر !! يا أختي يا حبيبتي : ما كنتُ لأقول لكِ هذا لو كان حيّاً! لا عليكِ، سأقول لكِ لماذا اختارني عَبْد الْمُطَّلِبِ ؟؟ لتعرفي أنَّه كان سيكرر ذلك بالنسبة لابنه..
اقرأ أيضا: الإفتاء: “الاحتفال بالمولد النبوي حلال والرسول احتفل بيوم مولده”
ذهب الشيخُ إلى اليمن في رحلة الشتاء، فنزل على حِبْرٍ من أهل الديور أي أهل الْكِتَاب من اليهود، فقال له الْحَبْرُ :
ـ يا عَبْد الْمُطَّلِبِ: أتأذن لى أنْ أنظر إلى بعضكَ؟
ـ نَعَمْ إِذَا لم يكن عورةً.
ففتح الْحَبْرُ إحدى منخري الشيخ، فنظر فيه، ثم نظر فى الآخر فقال: أشهدُ أنَّ فى إحدى يديكَ ملكاً، وفى الأخرى نُبُوَّةٌ، وإنَّا نجدُ ذلك فى بنى زهرة فكيف ذلك؟
قال عَبْد الْمُطَّلِبِ : لا أدرى!
فقال الْحَبْرُ : هل لكَ من شاغةٍ؟ (أي زوجة)؟
قال له : أما اليوم فلا..
قال الْحَبْرُ : فإِذَا رجعتَ فتزوَّج فيهم.
وهكذا بمجرد أنْ رجع إلى مكَّةَ طرق باب أبيكِ ليخطبني لنفسه، فلما عرفتُ ذلك، عرفتُ أني لو متُّ وأراد الزواج ثانيةً ما تزوَّج إلا من بني زهرة، وأنه لو أراد أن يزوِّج أحداً من أولاده فلن يكون ذلك إلا من بني زهرة، ولأنَّ عبد الله قد أصبح في سن الزواج فلن يتجاوز به بيوت بني زهرة.
وأي بيتٍ أقربُ إليه من بيتنا ؟؟
لهذا كنتُ أطمع أنْ تكوني أنتِ عروس ابنه، لَكِنِّي لما وثقتُ أنَّه سيفعل ذلك دون أنْ أطلب منه، تثاقلتُ حتى يطلب ولم أعرضكِ عليه !
ما أعجبكِ يا ابنةَ أبي ! تخجلين مِنْ شَيْءٍ لن يكون !
عَبْدُ الْمُطَّلِبِ نفسه كان يريد أن يخطب لعبد الله، ولعله لولا شَيْء في نفسه ما خطب لنفسه وخطب لعبد الله، وحتى لما خطب لنفسه، كان يتأخر في تكرار ذلك لابنه عبد الله لأنَّه كان يخشى أن يخطب له ثم يكون هو الذبيح، لذلك انتظر، فإن لم يكنْ هو الذبيح فهو العريس! لكنَّه كان هو، وكان شيخي أكثر حكمةً مني، فلو تحقَّق ما تعجلتُه لكنتِ أنتِ الْآنَ العروسَ الأرملةَ.
ـ إِنِّي راحلةٌ يا أختاه !