صفحات من حياة المصريين (4) الحملة الفرنسية على شواطىء الأسكندرية
سرد تاريخى يكتبه: طارق متولى
قضت مصر تحت حكم ولاة العثمانين، وجنود الأتراك والمماليك نحو ثلاثة قرون عانت فيها من أنواع الظلم وسوء الإدارة ما أضعف تجارتها وجعلها في معزل عن بقية العالم، فأصبحت لا تدري شيئًا عن قوى الدول الأوروبية وأطماعها أو علاقة بعضها ببعض.
وكان يقيم بمصر في ذلك الحين كثير من أبناء الجاليات الفرنسية والإنجليزية ولا يلتفت لهم المصريون، بل كانوا ينظرون إليهم بعين الإزدراء والكراهية، ولم ينتفعوا بإقامتهم بينهم إذ كانوا يعتقدون أن دولهم ما زالت على الضعف الذي سمعوه عنهم أيام الحروب الصليبية، وفاتهم أن الزمن قد تغير وأن أوروبا أصبحت على مبلغ من القوة وسعة العلم وعظم الدراية بالفنون الحربية بحيث لا يمكن مصادمته إلا بمثله.
وفى هذا الوقت أيضا كانت فرنسا قد قويت شوكتها بين دول أوروبا وظهر فيها في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي قائد حربي عظيم أخذ يتغلب على ممالك أوروبا، وبات كثير من دول أوروبا تهابه وتعمل له ألف حساب، ذلك هو العسكرى الأسطورة الشهير المدعو نابليون بونابرت.
وفي أواخر سنة (١٢١٢ه/١٧٩٨م) جرد بونابرت حملةً على مصر، واحتل أراضيها، ودخلت البلاد منذ ذلك الحين في طور يُعتبر أبتداؤه مبدأ تاريخ مصر الحديث.
صحيح أن الفرنسيين لم يلبثوا بمصر أكثر من ثلاث سنوات ولكن غزوتهم لها كان الحلقة الأولى من سلسلة حوادث، لعبت أوروبا أهم أدوارها، وأفضت عاقبتها إلى المركز الإجتماعي والسياسي الذى شغلته مصر فيما بعد.
ولم تكن الحملة الفرنسية على مصر فجائية أو من خواطر اللحظات، ذلك أن أحد وزراء لويس الرابع عشر، ويدعى ليبنتز ألح َّعلي مليكه سنة ١٦٧٢م بوجوب غزو مصر، وشرح له أن امتلاكها يجعل فرنسا سيدة العالم، وقد رأى ذلك غيره كثير من وزراء فرنسا بعده، لكن فرنسا لم تخطو خطوة في هذه السبيل إلا في عهد القائد بونابرت الذى لم يقدم على هذه الحملة إلا بعد تفكير طويل استشار فيه العلماء، وقرأ لأجل اتخاذ القرار الكتب وبعدئذ عرض اقتراحه على هيئة الحكومة الفرنسية شرح فيه أهم الأسباب التي تجعل الحكومة الفرنسية توافق على الإقدام على هذه الحملة وتقتنع بها وهذه الاسباب تتلخص فى الآتى:
أولا: رغبة بونابرت ذاته في زيادة نفوذ فرنسا في البحر الأبيض المتوسط، وضم وادي النيل إليها لَما فيه من الخيرات الكثيرة التي تُغني فرنسا عن كثير من المستعمرات البعيدة ولمكانة مصر التجارية العظيمة فى ذلك الوقت وثانيًا: تمهيد الطريق لقهر الإنجليز بطردهم من الهند واستيلاء الفرنسيين عليها لأن مصر هي مفتاح الطريق إلى بلاد الشرق، وكانت نفسه تتوق لتلك البلاد.
طالع أيضا: صفحات من حياة المصريين (3) المحروسة تحت حكم البكوات والباشوات
وفي الحقيقة كانت لدى بونابرت أطماع كبيرة في الشرق فكان يريد أن يحاكى إنجازات الأسكندر الأكبر من تكوين إمبراطورية عظمى يسيطر فيها على العالم .
ثانيا: يأتى أيضا فى أسباب الحملة مانال الفرنسينين المقيمين من تعدى على حقوقهم وأموالهم على يد الجنود الترك والمماليك.
وعملت الحكومة الفرنسية على أن يكون إعداد هذه الحملة فى غاية التستر والتكتم، ولا يعلم بها أحد وخاصةً بريطانيا أشد أعداء فرنسا في ذلك الحين، لذلك سهر بونابرت على إعداد ما يلزم لها من الجند والسفن الحربية والمراكب فجهز نحو ٤٠ ألف مقاتل عليهم ضباط من نخبة قواد فرنسا، مثل: كليبر، ودييزيه، ومينو، ومورات، وأعد لها أسطولا كبيرا جعل على رأسه القائد الكبير بروي، وسلَّحه بالكثير من المدافع والذخيرة واصطحب معه كذلك ما لا يقل عن مائة رجل من أعظم علماء فرنسا جمعهم من أكبر أساتذة كل العلوم والفنون وجهزهم بكثير من الكتب والآلات .
ولما انطلقت الحملة تجاه مصر طلبت الحكومة الإنجليزية من قائد أسطولها الحربى الشهير نلسون الذى يلقب بأمير البحار أن يقتفي أثر الأسطول الفرنسي وأن يُلحق به الضرر ما أمكنه ذلك.
وكان نابليون قد أوحى إلى الإنجليز أنه متجه نواحى ايرلندا، فتلقى نلسون هذه التعليمات، ولكنه لم يبحث عن نابليون غربي البحر الأبيض حيث ينتظر وجوده لو كانت وجهته الحقيقة ايرلندا لكنه بذكاءه قرر أن يقصد جزيرة مالطة، فلما وصلها وجد أن نابليون قد غادرها بجيشه منذ خمسة أيام وأنه سار شرقًا فأدرك أن وجهة نابليون لا بد أن تكون مصر، ورأى أن يتبعه إليها، وبالفعل وصل بأسطوله الإنجليزي إلى الإسكندرية يوم (٨ محرم سنة ١٢١٣ه/٢١ يونيو سنة ١٧٩٨م)، فلم يجد للأسطول الفرنسى فيها على أثر فبعث وفدا إلى حاكم المدينة السيد محمد كريم، يستفسر منه عن قدوم الأسطول الفرنسي ‘ فلما رأى أهل الإسكندرية الأسطول الإنجليزي، توجسوا شرا إذ لم يكن لهم علم بعزم الفرنسينين على غزو البلاد، وحاروا أيضا في أمر استعلام الإنجليز عن مجيء الأسطول الفرنسي فلم يعرفوا لإهتمامهم هذا سبب وذلك يدلنا على الدرجة التي وصلت إليها مصر في تلك الأيام من العزلة وعدم الدراية بأخبار العالم والتنافس الناشب بين المماليك الحكام.
وأكد رجال نلسون للمصريين أن الأسطول الإنجليزي ما أتى إلى هذه البلاد إلا ليدفع عن مصر الأسطول الفرنسي، وأن غاية ما يبغيه الإنجليز أن يُسمح لهم بانتظار الأسطول الفرنسي خارج الميناء، وأن يشتروا من المدينة بالمال ما يحتاجون إليه من الطعام والشراب فلم يقتنع السيد محمد كريم بحسن نية الإنجليز، ولم يجبهم إلى مطالبهم، بل وهددهم أن مصر بلاد السلطان العثمانى وليس للفرنسينين أو الإنجليز شىء فيها وطلب منهم مغادرة السواحل المصرية.
ولما كان هدف نلسون مطاردة الأسطول الفرنسى، ولم يكن فى نيته مهاجمة مصر، فلم ير داعيا إلى التعنت أو استخدام القوة فغادر بالفعل وأخذ يتجول فى البحر قليلا ويتزود من بعض الجزر والشواطىء الأخرى بالمؤن لحين العثور على الأسطول الفرنسى .
ولم يمر أسبوع على هذه الحادثة حتى ظهر فى أفق مدينة الإسكندرية أعلام الأسطول الفرنسى ففزع الناس، واصابهم الخوف والهلع، وأسرع حاكم المدينة محمد كريم فأرسل إلى مراد بك وإبراهيم بك فى العاصمة القاهرة يستنجد بهما وكان مما وصف به الأسطول الفرنسى أنه لا يرى آخره، وعندئذ أسرع مراد بك، وإبراهيم بك بعقد اجتماع مع كبار القادة والعلماء لبحث ما يحب فعله للدفاع عن البلاد.
والى صفحة قادمة من حياة المصريين إن شاء الله.