فى ذكرى ميلاد سيد الخلق أُمُّ النُّور آمِنَةَ بِنْتَ وَهْبٍ (مشهد 3 من 3).. وقد سمَّيتُه محمَّداً
سرد إبداعى يكتبه: د. صلاح شفيع
المشهد الثالث:
ـ ماذا تقولُ يا عبد الله ؟؟
ـ لا أدري، لَكنِّي أشعر بذلك، كنتُ والجميع يشفقُ عليَّ مما ينتظرني من موت أثقُ أني لن أموتَ، الْآنَ لم يعد هذا الشعور معي، بل العكس تماماً أشعر الآن أنَّ الموت أصبح قريباً مني، أنام فأظنُّ أني لن أصحو، ولستُ بمن يخاف موتاً، لَكِنِّي أتمنَّى لو أعيش لأرى صديقي..
ـ أي صديقٍ ؟
ـ ابني ! كان صديقي أثناء المحنة، كأنَّه السكينة التي تحوطني وتجعلني وحدي آمناً وسط كل المتوترين لأجلي ، الْآنَ صديقي عندكِ.. فإنْ أنا متُّ..
ـ لا تقلْ هذا، أليس ولدكَ في بطني فلماذا تحزنني ؟؟
ـ أشعر كأني لن أراكِ بعد اليوم..
ـ ألا تخافُ الموت وأنتَ بين يديه، ثم تستحضره بعد أن ولَّى عنكَ ؟؟
ـ كنتُ أودُّ لو تركتُ لكما الكثير، لَكنَّهَا قطعة الغنم، وخمسة جمال،وأمتي بركة.. فإنْ كُتِب لي الرجوعُ..
ـ أي رجوعٍ.. ؟
ـ سأذهب مع القافلة إلى غزة هاشم.. و..
كأنَّها أصبحتْ ترى ما قاله قد أصبح حقاً، وأصبحت هي أيضاً تخاف أنْ لا يرجع من تلك الرحلة ؟
ودَّت لو تتوسَّل لهالة أختها لتثني زوجها عَبْد الْمُطَّلِب عن قرار سفر الذبيح. ألا يشعرُ عَبْد الْمُطَّلِب بما ينتظر ابنُه الأثير لديه..
أي تجارةٍ ينتظرون الربحَ بسفره فيها ؟؟ وهل لو مات وقد دفعوا مائة ناقة من أشهر قليلة لاستبقائه أيكونون قد ربحوا ؟ أي ربحٍ في تجارة لو لم يرجع منها من افتدوه بمائة ناقة ؟؟!
ألا يشعر الأبُ بما يكاد أنْ يكون يقيناً عند ابنه وعندها ؟؟ أم أنًّه وثق أنَّ ابنه أصبح حصناً من الموت، الموت الَّذِي يقدر على الجميع لم يغلبه إلا عبدُ الله، كانتْ بين رقبته والسكين بضع دقائق، ولا يمنعها عنه أبٌ أو إخوةٌ، ثم إذ به ينهض من براثن الموت فما الخوفُ عليه ؟؟ لو أنَّ الموتَ أراد أنْ يُجهز على قافلة لعل وجود عبد الله فيها يقلعه عن ذلك.
هكذا إذن، الأبُ في وادٍ آخر، يظنُّ أنَّ الموت هو أبعد شَيْء عنه، لهذا يسارع إلى الدفع به إلى قافلة الموت، نَعَمْ..
وصلتْ القافلة إلى غزَّة هاشم للتجارة بأموال قُرَيْش، وفي طريق رجوعهم إلى مكة وأثناء مرورهم بيَثْرِب مرض عبد الله، فقرر البقاء عند أخواله من بني النجار على أمل اللحاق بالقافلة عندما يشفى من مرضه.
ورجعت القافلةُ وليس فيها عبد الله، اطمئن عَبْد الْمُطَّلِبِ أنَّ ابنه بخير،وأنَّها وعكةٌ خفيفة، أما آمِنَةُ فقد وصلتْها الرسالةُ، عبد الله لن يرجعَ.
بكتْ بينها وبين نفسها، ثم قالتْ لأختها هالة..
ـ لن يرجع عبد الله ! هو واللهِ الفراق، وواللهِ لا أتزوَّج بعده أبداً..
ـ ماذا تقولين ؟؟ إنه قوي، وما يهزمه مرضٌ وهو من هزم الموت !
ـ زوجي لن يرجع يا أختاه!
مكث عبد الله عند بني النجار شهراً ثم توفي وهو في الثامنة عشرة من عمره، ودُفِن في دار النابغة، ووصل النبأ لعَبْد الْمُطَّلِب..
ـ يا هالةُ، مات عبد الله،ولا أعرف كيف أُبلِغ هذه المسكينة بالخبر ؟؟ فأخبريها..
ـ هي تعرفُ..
ـ من أخبرها ؟؟ والرَّسُولُ لم يخبر أحداً سواي..
ـ هي أخبرتني أنَّ عبد الله كان يعرف أنَّه لن يرجع، وأخبرها، لذلك لما مرض في يَثْرِب شعرتْ كأنَّه كان صادقاً، وعاشتْ البلاءَ قبل وقوعه. يا لأختي المسكينة !
ـ هزم الموتَ هنا، وهزمه مرضٌ صغيرٌ هناك. لهذا أجَّلْتُ أنْ أزوِّجها له يوم تزوجتُكِ، كنتُ أخشى أنْ يخطفه نذري، لَكنَّهُ يتجاوز النذر، وينجو من الذَّبْح.
وظننتُ أنَّه أخذ حصانةً من الموت. فلن يقدر عليه الموتُ إلا بعد عمرٍ أطول من عمري، فإذ بالموت يتربصُ به ويأخذه بقسوة، كأنه نجا من الموت فحسب ليتزوج أختَكِ، وتحبل منه !
ـ لقد آلتْ ألا تَتَزَوَّج بعده..
ـ لله درُّها، بل لله درُّكن يا بنات زهرة، لم أحب ولداً كما أحببتُ هذا الولد، وكنتُ كما تعرفين أودُّ لو خرجتْ القسمةُ على أي أولادي غيره، وها هو يرحل دون أن أراه، فوالله ما مرَّ عليَّ وقتٌ كنتُ فيه أضعفَ مني الْآنَ..
كانتْ آمِنَةُ صغيرة فهي لم تتم الرابعة عشرة، تتمها بولادة ابنها، لَكنَّهَا قد عاهدتْ حبيبَها عبد الله أنْ يكون واحدها كما عاهدها أن تكون واحدته.
مازالتْ لا تشعر بثقل ولم تجد وحماً، ليس هكذا الحوامل، لَكنَّهَا برغم أنَّ الحمل أصبح واضحاً للجميع، إلا أنَّها لغير الحوامل أقرب. تودُّ لو وضعتْه لتذهب لزيارة قبر زوجها. لكنَّ النَّاسَ انشغلتْ عن موت الذبيح بما حدث من غزو أَبْرَهَة للكعبة.
وكأن الله أرسل هذا الغزو لينتزع الشيخَ من حزنه على عبد الله ابنه الأثير إلى قلبه، إذ نهض الشيخُ وكأنَّه لا يشغله شيءٌ سوى الدفاع عن بيت الله.لكن ماذا يفعل وهو لا قِبل له بجيش أَبْرَهَة ؟؟ لكنَّه يملك يقين ابنه نفسه، فكما كان عبد الله يثق أنَّه لن يموت لأنَّه يحمل أمانةً يجب أنْ تخرج قبل أنْ يموت، فكذلك هو يثق أنَّ أَبْرَهَة لن ينال البيت بسوء.. كلُّ الأمور كانتْ تسير خلاف إيمانه، لكنَّه واثقٌ في إيمانه.
طالع المزيد|المشهدان الأول والثانى من السلسلة: عبر الرابطين التاليين:
https://bayan-gate.com/2021/33584/
https://bayan-gate.com/2021/34253/
وبعث أَبْرَهَة برسول اسمه حناطة إلى أهل مكة :
ـ سلْ عن سيِّد هذا البلد وشريفهم، ثم قلْ له :
ـ إنِّ الْمَلِك يقول: إِنِّي لم آتِ لحربكم، إنما جئتُ لهدم هذا البيت، فإنْ لم تعرضوا لنا دونه بحرب، فلا حاجةَ لي بدمائكم، فإن هو لم يردْ حربي فائتني به.
فسأل حناطةُ فعرف أنَّ سيِّد قُرَيْش هو عَبْد الْمُطَّلِب، فجاءه وأخبره بما قاله الْمَلِكُ، فقال له عَبْد الْمُطَّلِب :
ـ واللهِ ما نريد حربَه، وما لنا بذلك من طاقة، هذا بيت الله الحرام وبيت خليله إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَامُ فإنْ يمنعْه منه فهو حرمُه وبيتُه، وإنْ يخلُ بينه وبينه، فوالله ما عندنا دفعٌ عنه.
ـ فانطلق معي إليه. فإنَّه قد أمرني أنْ أتيه بكَ.
مضى عَبْد الْمُطَّلِب معه، وسأله عن ذي نفر، وكان صديقاً له، وكان الْمَلِك قد أمر بحبسه لما نهاه عن تلك الغزوة، فدخل عَبْد الْمُطَّلِب عليه في محبسه..
ـ يا ذا نفر هل عندك غناءٌ فيما نزل بنا ؟
ـ لا. إلا أنْ أنيساً سائسَ الفيل صديقٌ لي، فسأرسل إليه وأوصيه بكَ فيشفع لكَ عند الْمَلِك بخير إنْ قدر على ذلك..
ـ حسبي.
وهكذا استأذن أنيسُ السائس أَبْرَهَة..
ـ أَيُّهَا الْمَلِك هذا سيِّد قُرَيْش ببابكَ يستأذن عليكَ، وهو صاحب عين مكَّةَ، وهو الَّذِي يُطعم النَّاس بالسهل والوحوش في رؤوس الجبال، فائذنْ له عليك فليكلمْكَ في حاجته و أحسن إليه.
كان عَبْد الْمُطَّلِب وسيماً جسيماً في بدايات السبعين من عمره، فلما رآه أَبْرَهَة أجلَّه وأكرمه عن أنْ يجلسه تحته، وفي الوقت نفسه كره أنْ تراه الحبشةُ يجلسه معه على سرير ملكه، فنزل أَبْرَهَة عن سريره، فجلس على بساطه، وأجلسه معه عليه إلى جانبه، ثم قال لترجمانه: قلْ له حاجتكَ؟ فقال له ذلك الترجمان.
ـ حاجتي أنْ يرد علىَّ الْمَلِكُ مائتي بعير أصابها لي!
فلما قال له ذلك، قال أَبْرَهَة لترجمانه:
ـ قلْ له لقد كنتُ أعجبتني حين رأيتكَ، ثم قد زهدتُ فيكَ حين كلمتني ؛ أتكلمني في مائتي بعير أصبتُها لكَ، وتترك بيتاً هو دينكَ ودين آبائكَ، قد جئتُ لأهدمه لا تكلمني فيه؟
ـ إِنِّي أنا ربُّ الْإِبِل، وإن للبيت ربّاً سيمنعه!
ـ ما كان ليمتنع مني.
ـ أنتَ وذاك.
ـ ردوا عليه إبلَه.
انصرف عَبْد الْمُطَّلِبِ إلى قُرَيْش فأخبرهم الخبر، وأمرهم بالخروج من مكة، والتحرُّز في رؤوس الجبال، خوفاً عليهم من معرة الجيش.أراد عَبْد الْمُطَّلِبِ أنْ يتركوا البلاد خاوية. يريد ألا تكونَ الحرب بين أَبْرَهَة وقُرَيْش، بل بين أَبْرَهَة ورب البيت.
تلك كانت خطتَّه، لذلك نذر الْإبلَ لله، وأطلقها في الحرم ليأخذها أَبْرَهَة، فيكون إن أخذها هذه المرة لا يأخذ بعير أحد من النَّاس، بل بعيراً منذورةً لله، ثم مضى إلى باب البيت فأخذ حلقتَه، وهو يقول :
لا هم إن العبد يمنع * رحله فامنع رحـــالك
لا يغلــــبَنَّ صليبهم * ومحالهم غدوا محالــــك
إن كنت تاركـــــهم * وقبلتنــا فأمر ما بدا لك
وبرك الفيل، وليس من عادته أنْ يبرك، وأرسل الله عليهم طيراً ترميهم بحجارة صغيرة لا تصيب منهم أحداً إلا هلك. وانتصر الله لبيته كما أراد عَبْد الْمُطَّلِب.
ـ كنتُ واثقاً أنَّ البيت لن يُمسَّ، ولعلَّها بركة ابن عبد الله..
وبعد شهرين إلا خمسةَ أيام على هزيمة أَبْرَهَة كانتْ الشفاءُ امْرَأَة عوف تذهب إلى آمِنَةَ، فقد حان موعد ولادتها.
ولدتْه مستقبلاً القبلة، رافعاً رأسه إلى الماء، مقبوضةً أصابعُ يديه مشيرًا بالسبابة كالمسبِّح بها.
ـ لقد وُلِد مختوناً !
ـ فاكتمي هذه..
وأرسلوه إلى جده..
فرح عَبْد الْمُطَّلِبِ بحفيده، وكأنَّه لم يفقد ابنه، ودخل به الْكَعْبَة شاكراً لله..
ـ ليكونَنَّ لابني هذا شأنٌ، وقد سمَّيتُه محمَّداً..!