د. ناجح إبراهيم يكتب: دموع النبي الكريم
متى بكى رسول الله محمد بن عبد الله، صلى الله عليه وسلم؟.. ولماذا بكى؟!.. وكيف بكى؟! يرصد د. ناجح إبراهيم، فى مقاله التالى هذه اللحظات الإنسانية الفريدة فى حياة سيد الخلق، والمقال منشور فى صحيفة الوطن، وفى التالى نصه:
الضحك والبكاء نعمتان عظيمتان منَّ الله بهما على الإنسان، كلاهما يحقق التوازن النفسى للإنسان، ولهما تأثير إيجابى على الإنسان إن كان فى وقته وبقدره «وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى»، فكلاهما من سنن الله فى خلقه.
كان ضحكه صلى الله عليه وسلم باعتدال، وكذلك بكاؤه، فلا يعرف القهقهة ولا يعرف انهيارات الحزن والبكاء، كان بكاؤه جميلاً ومؤثراً مثلما كان ضحكه وقوراً.
البكاء مشهد إنسانى رائع من مشاهد الإنسانية عند الرسول الكريم حينما يمر بموقف دينى أو إنسانى تهتز له مشاعره، وتفيض عيناه، ويخفق قلبه الطاهر، فيخاف معها من ربه تارة أو يرحم بها الخلق أو يشفق من خلالها على الضعفاء ويتأثر بآلامهم وأحزانهم أو يعبر بها عن آلامه وهمومه تارة أخرى، فهو فى النهاية بشر كسائر البشر.
دموع النبى الغالية كانت لمناجاة ربه أو مواساة مكروب أو الترويح عن مصاب.
النبى الإنسان لا يتكلف فى دموعه، كما لم يتكلف فى حديثه وحياته، يترك نفسه الكريمة على سجيتها الطيبة، سواءً فى علاقته بربه أو علاقته بأسرته أو الناس.
ها هى دموع النبى الغالية تنهمر كالسيل وهو واقف بين يدى ربه يناجيه ويناديه تعظيماً لمولاه وتوقيراً وخشية، حتى وصف الصحابى هذا المشهد فى صلاته: «رأيت رسول الله وفى صدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء»، ووصفته زوجته عائشة: «ثم قام يصلى فلم يزل يبكى حتى بلَّ حجره، ثم بكى فلم يزل يبكى حتى بلَّ لحيته، ثم بكى فلم يزل يبكى حتى بلَّ الأرض، فجاء بلال للأذان فقال له: تبكى هكذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟»، فقال له: «أفلا أكون عبداً شكوراً».
البكاء شكراً لله لا يتوقف على موقف الصلاة وحدها، ولكن يمكن أن يحدث حتى فى خارجها.
وبكى النبى لعتاب ربه له حينما قَبِل الفداء فى أسرى بدر: «مَا كَانَ لِنَبِىّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِى الْأَرْضِ»، حتى أشفق عليه عمر بن الخطاب من كثرة بكائه.
كانت دموع الرسول الرقيق الرحيم تتقاطر وهو يشعر بمسئوليته عن أمته فى الدنيا والآخرة وعبء الرسالة، وكان يحب سماع القرآن من غيره، خاصة القراء العظام من الصحابة مثل ابن مسعود، وكلنا يذكر قراءته عليه من سورة النساء حتى إذا وصل إلى قوله تعالى: «فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيداً»، حينها قال له الرسول: «حسبك»، وهو فى قمة التأثر بهذه الآيات والأعباء الجسام، فنظر إليه فإذا عيناه تذرفان.
وكان يبكى شفقة على أمته من أهوال الموت والحساب، فهنا هو يقف على شفير القبر ويبكى حتى بلَّ الثرى من شدة تأثره، وهو يقول لمن حوله وللدنيا كلها: «يا إخوانى لمثل هذا فأعدوا».
رقة الرسول ورحمته تجعله يخاف على أمته من أهوال القيامة وموقف الحساب، ويبين الرسول سبب بكائه خشية لله: «لو تَعلمونَ ما أعْلَمُ لضَحِكْتُمْ قليلاً ولبَكَيتُمْ كثيراً».
تدبر معانى القرآن ووعيد السماء وكلمات الأنبياء الرائعة كانت رافداً لدموع النبى، فها هو يستعيد المعانى الجميلة لكلمات شقيقه المسيح، عليه السلام، وهو يقرأها «إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ».
وكان النبى يتذكر أمته فيبكى بين الحين والآخر ويقول: «اللهم أمتى أمتى»، مشفقاً عليها ورفيقاً بها، وهو الذى جعله يدعو ويلح فى الدعاء يوم بدر حتى بكى وسقطت عنه بردته وهو يناشد ربه ألا يهلك أمته بالهزيمة، فهؤلاء كانوا نواة الإيمان الأولى: «اللهم إن تهلك هذه العصابة فلن تُعبد على وجه الأرض».
طالع المزيد| د. ناجح إبراهيم يكتب: أيام من حياتي
لم تكن دموع النبى الكريم تتدفق تفاعلاً مع قضايا الدين والآخرة فحسب ولكن لفراق أحبته؛ فقد بكى على ابنه إبراهيم، وقد أرسلت إليه إحدى بناته تخبره أن طفلها يوشك أن يموت، فلما حضر ورأى الصبى يلفظ أنفاسه الأخيرة بلغ منه التأثر مبلغاً فبكى، فتعجب بعض الصحابة من بكائه؛ لأن العرب قبل ذلك كانت تعتبر بكاء الرجال فى مثل هذه المواقف ضعفاً، فقال لهم: «هذه رحمة، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء»، وهذا المعنى سلَّ جفوة كانت فى نفوس العرب تجاه هذه المواقف ليفرق بين الصلابة والثبات وبين الرحمة والشفقة، إنهما متكاملان لا متضادان.
وعند عودة الرسول، صلى الله عليه وسلم، من إحدى الغزوات، توقف عند قبر قديم منفرد فى الصحراء ليس حوله شىء، فجلس عنده، وبكى بكاءً شديداً، فلما سأله عمر بن الخطاب عن سر بكائه؟ قال: «هذا قبر أمى، استأذنت ربى أن أزورها فأذن لى، فاستأذنته أن أستغفر لها فأذن لى».
وبكى حينما رأى قلادة زوجته الراحلة العظيمة خديجة حينما قدمتها ابنته زينب فداءً لزوجها العاص بن الربيع، وكانت السيدة خديجة أهدتها لابنتها زينب حين زواجها، فرقَّ للقلادة ولذكرى زوجته رمز العطاء خديجة، وشفع عند الصحابة أن يردوا إليها أسيرها وزوجها وكذلك قلادتها، فاستجاب الصحابة فوراً، هكذا رقته للقلادة ولذكرى زوجته، فما بالكم برحمته بزوجته.
وبكى حينما رأى منظر عمه أسد الله وأسد رسوله حمزة وهو ممزق الأشلاء، كان منظره مؤثراً فى قلب الرسول، وهو يرى بشاعة التمثيل اللا أخلاقى بجثة هذا البطل العظيم.
وبكى النبى وهو ينعى إلى أصحابه ابن عمه جعفر بن أبى طالب، فقد كان مرتبطاً بأولاد عمه أبى طالب حيث تربى بينهم وعاش أياماً جميلة بين عم ينافح عنه وأولاد عم كانوا أول من نصروه وآزروه.