صفحات من حياة المصريين (5) الاحتلال الفرنسى لمصر
سرد تاريخى يكتبه: طارق متولى
بينما كان المماليك بقيادة مراد بك وابراهيم بك مجتمعون فى القاهرة مع كبار القادة والعلماء لبحث الدفاع عن مصر ضد الحملة الفرنسية، والأسطول الفرنسى الذى وصل أمام الإسكندرية في اليوم الثامن عشر من المحرم، الأولمن يوليو، وعند ذلك أرسل زورقًا إلى الميناء يطلب القنصل الفرنسي، فتردد السيد محمد كريم رئيس المدينة أولا في تسليمه ثم أذن له بالذهاب، فعلم منه نابليون ما كان من أمر الأسطول الإنجليزي وما يعده المماليك للدفاع عن البلاد، فإستقر على إنزال جيشه إلى البر في الحال، واختار لذلك نقطةً غربي الإسكندرية بنحو ثلاثة أميال (العجمي الآن ) فسار بأسطوله إليها وشرع في إنزال رجاله وعدده ليلا بكل سرعة، فتم له ذلك من غير أن يعترضه أحد.
وبعد أن استراح برهة على الرمال جرد قسما من جيشه وسار على الأقدام قاصدا الإسكندرية، فقابلتهم قُبيل الفجر بعض فصائل من عرب «أولاد علي»، تبادلوا معهم بعض الطلقات، ثم فر الأخيرون مذعورين، واستمر الجيش في المسير نحو الإسكندرية، حتى صار على مقربة من أسوارها، فقابلتهم حامية المدينة بما لديها من وسائل الدفاع، فقسم نابليون رجاله إلى ثلاثة أقسام وهاجم بهم الأسوار هجوم عام من اليمين واليسار والقلب فدخلوا المدينة.
وانسحب الحاكم ورجاله إلى قلعة «فاروس» في طرف الميناء الشرقي (قايتباي الآن)، ولما دخل الفرنسيون المدينة مخترقين شوارعها الضيقة، أمطرهم الأهالى من نوافذ المنازل وابلا ً من المقذوفات، فقابلهم الفرنسيون بأشد منها، وكادوا يدمرون المدينة كلها لولا أن أرسل نابليون رسولا ِّ إلى الإسكندرية يؤمّن الناس على أموالهم وأرواحهم ودينهم وتقاليدهم، وأخبرهم بأن فرنسا لا تقصد سوءًا إلا بالمماليك، وأنها تحرص على مودة الأهالى و سلطانهم العثمانى الأعظم؛ فهدأ الناس حقنًا للدماء، واستسلم إليه السيد محمد كريم، لقلة ما بقي معه من الذخيرة، فأكرمه نابليون، وقال له: «قد أخضعتُك بالقوة، ولي الحق أن أعاملك معاملة الأسري، ولكن نظرا لما أبديتَه من الشجاعة، ولأن الشجاعة حليفة الشرف، أرد ً إليك سيفك، أملا أن تُخلص للجمهورية الفرنسية بقدر ما أخلصت لتلك الحكومة العاتية (يقصد حكومة المماليك تحت الحكم العثمانى)، فأعرب السيد محمد كريم عن رغبته في خدمة الجمهورية، وأبقاه نابليون في منصبه تحت إشراف «الجنرال كليبر» وكان هذا قد اضطَّر إلى البقاء بالإسكندرية لجرح أصابه وقت مهاجمة الأسوار.
ولم تكد الجنود الفرنسية تنزل إلى المدينة وتتجول في أنحائها، حتى لحقهم الملل بسبب الحر الشديد الذي لم يعتادوه واستولت عليهم الكآبة فإنهم لم يجدوا فى المدينة شيئًا من العظمة والبهاء مما سمعوا به قبل مجيئهم، وهذا يدل على تدهور أحوال البلاد وعدم الاهتمام بها فى تلك الآونة وكل ما وقع عليه نظرهم من شوارع ملتوية، وأزقَّة ضيقة قذرة، وآثار مهملة، وملابس وأزياء لا تنطبق على ذوقهم الفرنسي؛ لم يزدهم إلا نفورا واعتقدوا أنهم في غزوة لا فائدة فيها.
طالع المزيد| صفحات من حياة المصريين (4) الحملة الفرنسية على شواطىء الأسكندرية
كيف تتقبل من لا يشجع فريقك ؟!.. «أسلوب حياة»
على أن نابليون ذاته لم يظهر عليه شيء من ذلك، بل بقي ثابت الجأش، كلُّه حركة ونشاط، ولم يكد يتم له الإستيلاء على الإسكندرية حتى أمر بإنزال كل المعدات الحربية إلى البر، كي لا يفاجئه «نلسن» قائد الأسطول الأنجليزى فى البحر، ثم التفت إلى تنظيم حكومة الإسكندرية، فعهد بإدارة شئونها إلى ديوان، مشكل من سبعة أشخاص مختارين، وأمر بإنزال جماعة العلماء الذين معه، وكلَّفهم مباشرة البحث والتنقيب بالإسكندرية ريثما يتم له فتح العاصمة فيستدعيهم إليها، فشرعوا في عملهم بكل همة ونشاط.
ومن أنفع ما بدءوا به أنهم رسموا مصورا وافيًا للإسكندرية وضواحيها.
وقبل أن يزحف نابليون بجيشه إلى القاهرة أمر بكتابة منشور بالعربية ليلقى به السكينة في قلوب الأهالي، وعهد بكتابته إلى المستشرقين من علمائه، وطبع بالمطبعة العربية التي احضروها معهم، وقد رأى نابليون في هذا المنشور أن يُخضع المصريين من باب الدين واحترامه لعقائدهم وخليفة نبيهم فغالى في مصانعتهم حتى شك معظم الأهالى في صدق نيته، وأخذوا يهرعون إلى القرى والبلاد التي بمعزل عن طريق الفرنسيني حتى لا يقعوا أسرى في أيديهم ومما قلَّل من ثقة الأهالي بهذا المنشور أن نابليون كان وعدهم عند استيلائه على الإسكندرية بعدم التعرض لحريتهم وتقاليدهم، ولكن ما لبث أن جردهم من السلاح وأمرهم أن يحملوا على صدورهم شارة الجمهورية الفرنسية وهي قطعة مستديرة من القماش مؤلفة من ثلاثة ألوان الأزرق والأبيض والأحمر وها هي بعض عبارات هذا المنشور العجيب، نقلا عن كتاب المؤرخ الشهير الشيخ عبد الرحمن الجبرتى:
” بسم الله الرحمن الرحيم، لا إله إلا الله، ولا ولد له ولا شريك له في ملكه. من طرف الفرنساوية المبني على أساس الحرية والتسوية من الجيوش الفرنساوية بونابارته، يعرف أهالي مصر جميعهم أن من زمان مديد السناجق (المماليك) الذين يتسلطون في البلاد المصرية يتعاملون بالذل والاحتقار في حق الملة الفرنساوية، ويظلمون تجارها بأنواع الإيذاء والتعدي، فحضر الآن ساعة عقوبتهم.
من مدة عصور طويلة هذه الزمرة من المماليك المجلوبين من بلاد الأبنزة والجراكسة يُفسدون في الإقليم الحسن الأحسن الذي لا يوجد في كرة الأرض كلها مثله فأن رب العاملين القادر على كل شيء، فإنه قد حكم على إنقضاء دولتهم. يا أيها المصريون، قد قيل لكم إنني ما نزلت بهذا الطرف إلا بقصد إزالة دينكم، فذلك كذب صريح، فلا تصدقوه، وقولوا للمفترين إنني ما قدمت إليكم إلا لأخلِّص حقكم من يد الظاملين، وإنني أكثر من المماليك عبادة لله سبحانه وتعالى وأحترم نبيه والقرآن العظيم.
وقولوا أيضا لهم: إن جميع الناس متساوون عند الله، وإن الشيء الذي يفرقهم عن بعضهم هو العقل والفضائل والعلوم فقط، وبين المماليك والعقل والفضائل تضارب كبير فماذا يميزهم عن غيرهم حتى يستوجبوا أن يتملكوا مصر وحدهم ويختصوا بكل شيء أحسن فيها من الجواري الحسان والخيل العتاق والمساكن الفاخرة ؟ فإن كانت هذه البلاد ملكا لهم فليرونا الحجة التي كتبها الله لهم، من الآن فصاعدا لا ييأس أحد من أهالي مصر عن الدخول في المناصب السامية وعن إكتساب المراتب العالية؛ فالعلماء والفضلاء والعقلاء بينهم سيتولون أمور البلاد وبذلك يصلح حال الأمة كلها.
وسابقا كان في الأراضي المصرية المدن العظيمة والخلجان الواسعة والخيرات العظيمة، وما أزال ذلك كله إلا الظلم والطمع من المماليك.
أيها المشايخ والقضاة والأئمة وأعيان البلد، قولوا لأمتكم: إن الفرنساوية هم أيضا مسلمون مخلصون، وإثبات ذلك أنهم قد نزلوا في رومية الكبرى وخربوا فيها كرسي البابا، الذي كان دائما يحث النصارى على محاربة الإسلام، ثم قصدوا جزيرة مالطة وطردوا منها الفرسان الذين كانوا يزعمون أن الله تعالى يطلب منهم مقاتلة المسلمين ، ومع ذلك الفرنساوية في كل وقت من الأوقات صاروا محبين مخلصين لحضرة السلطان العثماني ِ وأعداءَ أعدائه،أدام الله ملكه. ومع ذلك إن المماليك امتنعوا من إطاعة السلطان غير ممتثلين لأمره، فما أطاعوا أصلا إلا لطمع أنفسهم، طوبى ثم طوبى لأهالي مصر الذين يتفقون معنا بلا تأخير، فيصلح حالهم وتعلو مراتبهم، طوبى أيضا للذين يقعدون في مساكنهم غير مائلين لأحد من الفريقَين المتحاربَين، فإذا عرفونا بالأكثر تسارعوا إلينا بكل قلب، لكن الويل ثم الويل للذين يعتمدون على المماليك في محاربتنا؛ فلا يجدون بعد ذلك طريقًا إلى الخلاص، ولا يبقى منهم أثر.
ترك نابليون «كليبر» بالإسكندرية، وشرع في الزحف على القاهرة في (٢٣ المحرم/٧ يوليو) واختار لذلك طريق الصحراء الغربية مخترقًا مدينة «دمنهور»، وأرسل جزء من جيشه للإستيلاء على رشيد وواصل هو طريقة إلى الرحمانية، حتى هزم جيش المماليك بقيادة مراد بك عند شبراخيت ثم انضم إليه بقية جيشه بعد أن استولى على رشيد، وتقهقر المماليك مراد بك الى إمبابة وتحصن ابراهيم بك بالقاهرة ناحية بولاق فهزم نابليون مراد بك فى موقعة إمبابة بعدها فر مراد بك الى الصعيد ‘ ولما علم ابراهيم بك بهزيمة صاحبه فر هاربا إلى الشرقية ومن معه من المماليك.
واجتمع علماء الأزهر والحال كذلك فقرروا أن يسلموا لنابليون حقنا لدماء الأهالى وهكذا استتب الأمر لنابليون فى القاهرة ونزل الجنود الفرنسيين بالقلعة وأرسل نابليون جزء من جيشه لملاحقة ابراهيم بك فى الشرقية ومراد بك فى الصعيد، ثم عمد إلى تنظيم الحكومة وإدارة شؤون البلاد ودخلت مصر مرحلة جديدة من تاريخها وتاريخ شعبها.
وإلى لقاء قادم فى صفحة جديدة إن شاء الله.