قلب «أسوهيرا»
سردية يكتبها د. صلاح شفيع
إذا كنتَ تحب وطنكَ فهل تكون أحببتَه لمَّا تقول أحبه ؟؟ وهل يكون مؤمناً من قال أنا مؤمن أليس من الممكن أن يكون منافقاً ؟ كلما وجدتُ أحداً يلهج بحب الوطن بفيه يحضرني حكاية المنافقين الذين شهدوا لرسوله بأنه رسولُ الله، فقال الله تعالى : والله يعلم إنك لرسوله، ويشهد أن المنافقون لكاذبون ..
حكم الله عليهم بأنهم كاذبون، ليعلَّمنا أنَّ القول وحده لا يكفي إلا أنْ طابق فعله قوله.والحقيقة أني أعلم أنَّ بلدي تُستحَق أنْ تُحب، وأعلم أيضاً أنْ من لا يفعل شيئاً لها سوى التسبيح بحبها كاذبون .
المخابرات المصرية في مسلسل رأفت الهجان، طلبوا منه أن يجنِّد أحد اليهود ممن يحيطون به، فرأى أن ينتقى أكثرهم سخطاً على الدولة، ويكثر من انتقادها، فجاءه الأمر بأنه إذا أراد أن يجنِّد أحداً، فليبحثْ عن تلك الأفواه التي تسبِّح بحب الوطن، فحب الوطن عندها لا يتجاوز فاهها .. وهكذا لم يجد رأفت الهجان سهولة في استمالة أحدهم عن إسرائيل التي يسبح بحبها ليل نهار .
الحب ليس كلاماً، إلا أن كان الكلام يعني الحب، ها هو خبيب على الصليب يُقال له : أيسركَ أن يكون محمد مكانكَ ؟؟
ماذا تقول عن أم أطفالها .. الرماس في أعينهم، وملابسهم متسخة .. و.. تقول : تلك أم مهملة لا تحب أولادها ..
في مسلسل دقيقة صمت، جاء الهارب من الإعدام، ليفاوض الذين يطاردونه، فكان الأعلى صوتاً ضد المجرم الهارب من بين أفراد المجموعة هو العميد عصام، لأنه قد انقلب عليهم، وتحالف مع المجرم ضدهم . لابد لنفي تحالفه السري أن يكون الأعلى صوتاً، والأكثر تظاهراً.
تاكيو أوساهيرا، أرسلتْه الحكومة في بعثة إلى جامعة هامبورغ بألمانيا، لدارسة أصول الميكانيكا العلمية، وهناك فهم أنَّ لكل صناعة وحدة أساسية أو موديل، تقوم عليه الصناعة بالكامل، إذا عرفتَ أن تصنع هذا الموديل فقد وضعتَ يدك َعلى سر هذه الصناعة .
طالع المزيد| فى ذكرى ميلاد سيد الخلق.. أُمُّ النُّور آمِنَةَ بِنْتَ وَهْبٍ (مشهد 1 من 3)
فى ذكرى ميلاد سيد الخلق أُمُّ النُّور آمِنَةَ بِنْتَ وَهْبٍ (مشهد 2 من 3).. نجاة الذبيح
فى ذكرى ميلاد سيد الخلق أُمُّ النُّور آمِنَةَ بِنْتَ وَهْبٍ (مشهد 3 من 3).. وقد سمَّيتُه محمَّداً
عرف من خلال دراسته جميع نظريات الميكانيكا، لكنه وقف عاجزاً أمام أصغر محرِّك، المحرِّك هو الموديل الذي تقوم عليه الصناعة، يعرف كل شيء في الصناعة إلا هذا اللغز المستحيل .
وإذا استمر هذا اللغز مستغلقاً على اليابان، فستظل روحها في يد الغرب، فمهما اخترعوا في اليابان من الآلات، فلابد أن يستوردوا المحرِّك من الغرب . وهنا في ألمانيا كل شيء يمكن تعلمه إلا المحرِّك !
كان الوقت في أول الشهر، وكان معه مرتبه، وقد كان ثمة معرض لمحرِّكات إيطالية الصنع . وقف عند محرِّك قوته حصانان، كان ثمنه يعادل مرتبه كله، أخرج الثمن، وحمل المحرِّك الثقيل إلى حجرته، وكأنه يحمل خريطة كنز .. وضعه على المنضدة ..
ـ هنا يكمن سر قوة أوربا .
لو استطاع أنْ يصل إلى سره، وصنع محرِّكاً مماثلاً سيتغير اتجاه التاريخ في اليابان . قرر تاكيو أن يعرف سر هذا المحرك الغامض !
لو فكَّكه فربما لا يستطيع تركيبه ثانية، قرَّر أن يرسم كلَّ قطعة يفككها ويرقمها ويحاول أنْ يفهم لماذا وُضِعتْ في هذا المكان بالذات، وبعد أنْ أصبح المحرِّك مفككاً قطعةً قطعةً، حتى بدأ بتجميعه مرة أخرى مسترشداً بترقيمه .
ثلاثة أيام من العمل الذي لا يتوقف، كان وقتها يشم النوم لا يذوقه، أما الطعام هل كان مطلوباً منه أن يأكل، لقد نسى تماماً لكنه في اليوم الثالث عندما استطاع أن يعيد تركيب المحرِّك وأن يعيد تشغيله مرة أخرى، قفز فرحاً : قد نجحتُ .
ذهب لأستاذه الياباني رئيس بعثتهم وأخبره الخبر العظيم :
– سيدي استطعتُ أنْ أعيد تشغيل المحرك، أعدتُ جميعه لقد نجحتُ.
– يا بني النجاح الحقيقي أن تشغِّل محركاً لا يعمل، خذْ هذا المحرِّك المعطَّل إذا استطعتَ أنْ تصلحه فقد وصلتَ إلى اللغز.
هذه المرة كان أشد ثقةً على الوصول، بدأ تفكيكه قطعةً قطعةً بنفس الطريقة السابقة، لمَّا بدأ إعادة تجميعه وجد ثلاث قطع تالفة، تحتاج إلى إعادة صهر وتكوين من جديد، هذا ما أراده أستاذه، لن تصل اليابان إلى هدفها العظيم إلا من خلال هذا الطريق، أنْ يدرس كعامل بسيط كيفية صهر وتكوين وتصنيع القطع الصغيرة المكونة لأجزاء المحرِّك.
وبعد أن أعاد تصنيع القطع التالفة، ركَّب المحرِّك من جديد، لم يستغرق الأمر أكثر من عشرة أيام وعزف المحرِّك سيمفونية : كأنه يقول له بلغة لا يفهمها إلا هو : أنتَ تستطيع يا تاكيو ..
– سيدي الآنَ عرفتَ طريقي ، سألبس بدلة العامل البسيط وسأتجه إلى مصانع صهر المعادن لأتعلَّم كيف يمكن أنْ نصنع القطع الصغيرة.
وبدلاً من أن يعدَّ رسالة الدكتوراة التي حلم بها والداه، وكما أراد أستاذه الألماني، تحوَّل إلى عامل في المصنع يلبس بدلة زرقاء، يتعلَّم من عمال صهر المعادن، يعمل أكثر من اثنتي عشرة ساعة، ورجع إلى اليابان بعد تسع سنوات فأرسل له الإمبراطور يطلب مقابلته شخصياً ليشكره على ما قدمه لكنه ردَّ على الرسالة :
– لا زلتُ حتى الآن لا استحق هذا الشرف، حتى الآن لم أنجح.
وأمضى تسع سنوات أخرى من العمل المتواصل، وقتها هو الذي طلب مقابلة الإمبراطور وحمل له عشرة محرِّكات صُنِعتْ في اليابان، قال الإمبراطور لما سمعها تعمل :
– هذه أجمل معزوفة سمعتُها في حياتي، صوت محركات يابانية الصنع مئة بالمئة.
كم أفتخر بهذا الرجل، وأتمنى لو كان مصرياً، بل أتمنى أن يكون لبلدي ـ ولكل بلد ـ مثله، ينذر حياتَه ليحمل بلدَه ويطير بها بعيداً بعيداً نعم، لقد حمل اليابانَ كلَّها وطار بها ليراها الجميع حلماً يصعب الوصول إليه، لقد ضرب المثل لبني قومه فأصبح كل عامل ياباني يقول : أعمل ثماني ساعات لنفسي وأولادي، وساعة من أجل اليابان، وأصبح كل منهم يرى الشرف ليس في الشهادة الجامعية التي لم يهتم بها أوساهيرو ، بل الشرف في عفريتة العامل البسيط، وأصبحتْ اليابان كلَّها منظومة عمل حتى قيل : العالم يلهو واليابان يعمل، لم يعد شعار صنع في اليابان مثل تقدير من اليابان فحسب بل من العالم أجمع.
إنَّ حبَّ الوطن ليس أن تقول إنكَ تحبه، فكم من منافقٍ يقول ما لا يؤمن فالقول أبداً ليس الدليل على الحبَّ، وكذلك كثرةُ الأغنيات من يحب وطنه يعمل لها في صمت مثل أوساهيرا.
ما أحرانا في مصر الحبيبة أن نحبها بأسلوب أوساهيرو، وليس بأسلوب الأغاني نغني لها ليل نهار، ونخنق فيها دون أن ندري ، نغني أننا لا يعنينا ماذا ستعطينا مصر، المهم هو ما سنعطيه لها، لكن المتغنِّي بالأغنية غير مشغول إلا بمصلحته الخاصة. حب الوطن إذاً ليس بالكلام، لقد جاء المنافقون يشهدون لرسول الله : نشهد إنكَ لرسولُ الله، وحكم الله عليهم بأنهم كاذبون برغم صدق قولهم لأنهم يقولون قولاً لا يؤمنون به، فكل من يتشدق بحب مصر ويكون عمله منافياً لمفهوم العطاء يحبها بطريقة المنافقين التي رفضها اللهُ.