د. محمد رجب يكتب: ذكرياتي مع الزعيم جمال عبدالناصر
أنا واحد من ملايين المصريين الذى تفتحت أعينهم وهم يشهدون الزعيم يوجه صرخة مدوية قائلا : ارفع رأسك يا أخى فقد انتهى عهد الاستعباد، وانتهى عصر الاستعمار وأصبحت منذ هذه اللحظة وأنا لم أتخلف ولو مره واحدة للاستماع إلى خطاب أو حديث أو مداخلة لجمال عبدالناصر.
كنا نسكند. محمد رجب يكتب: ذكرياتي مع الزعيم جمال عبدالناصربقسم الجمالية وكان المنزل يتكون من خمس شقق، نحن نقطن إحداها ويقطن باقى الشقق أربع أسر وكنا نعيش فى هذا المنزل وكأننا أسرة واحدة وكانت واحدة من هذه الشقق تملك راديو وكانت الشقة هى الصالون الذى تجتمع فيه كل الشقق للاستماع لخطب عبدالناصر.
وكان أصحاب تلك الشقة يسارعون بإخطار باقى السكان بأن عبدالناصر يتكلم وعلي الفور نهرول للاستماع لجمال عبدالناصر تاركين كل ما فى أيدينا حتى ولو كنا مجتمعين حول طبلية الغذاء أوالعشاء وكنا نردد ونحن مهرولين إلي شقة الراديو : قوم يا أخى أنت وهو وهو الأكل حيطير ؟! .
وبعد الاستماع للخطاب ننسي موضوع الأكل وكأننا قد شبعنا بعد الاستماع لخطاب الزعيم .
طالع المزيد| د. محمد رجب يكتب: القيمة الحقيقية لإلغاء حالة الطوارئ
الرئيس السيسى يُنيب وزير الدفاع للمشاركة فى إحياء الذكرى السنوية لرحيل الزعيم عبد الناصر
عبد الحليم قنديل يكتب: عبد الناصر الذى أمامنا
وأذكر أنه كثيرا ماكان التيار الكهربائى يتصادف انقطاعه وساعتها يتصرف وينصرف كل منا للبحث عن مكان آخر به راديو يذيع خطاب الرئيس.
وكنت واحدا من الشباب الذى أدمن الاستماع لخطب عبدالناصر وكانت الحكومة تضع أجهزة التليفزيون لإذاعة الخطاب فى الميادين العامة وطبيعى أن أحجز لنفسى مكانا لأقف فيه وأختار أحد الأعمدة بميدان العتبة الخضراء وأمام هيئة البريد .. وكانت خطب عبد الناصر تمتد أحيانا لثلاث ساعات وكنت استمع للخطاب وأنا سعيدا رغم وقوفى الطويل، وكان الكثير من الشباب يقف مستمعا وفى خشوع وسعادة وكنت بالطبع ضمن الآلاف من الشباب المدمن لخطابات الرئيس جمال وهو الذى خلق بداخلى حرصى على الاهتمام بالعمل السياسى والمشاركة فى الخدمة العامة.
وكنا نحرص على متابعة خطابات عبدالناصر فى أي مكان، وننظم رحلات تزحف خلف عبدالناصر أينما وجد فى أى محافظة.
وأستطيع أن أؤكد بأن ذلك خلق لدى جيل كامل الاهتمام بالشأن العام.. وعندما أدرك عبد الناصر أهمية أن يكون للشباب تنظيما سياسيا، يكون بمثابة المدرسة السياسية لإعداد كوادر سياسية فى مناحى الحياة المختلفة، جاءت فكرة إنشاء منظمة الشباب كتنظيم شبابي عام 1965 .
وعندما وقف عبدالناصر يخاطب الأمة كلها قائلا : إن المهمة الأساسية التى يجب أن نضعها نصب عيوننا هو أن نمهد الطريق أمام جيل الشباب ليكون أكثر وعيا وأكثر صلابة وأكثر جرأة من جيل سبق، وإن تلك مسئوليتنا لأننا لم نفعل ذلك لتكون الثورة أشبه بفورة قامت ثم انطفأت، وإن تمكين هذا الجيل من الإمساك بمقدرات المستقبل هى مسؤليتنا.
وكانت تلك البداية وهى التى أتاحت لآلاف الشباب ممن انخرطوا فى صفوف منظمة الشباب .. وأعتبر عبدالناصر أن هذه المنظمة أهم التنظيمات التى أنشأتها الثورة وكان من حسن حظي أننى كنت واحدا من الذين انخرطوا بتلك المنظمة وتعلمت واكتسبت فيها خبرات سياسية وتنظيمة وجماهيرية لم أكن أعرف عنها شيئا قبل ذلك !
وأستطيع أن أقرر بمنتهى الشجاعة أن كثيرين ممن تبوؤا أرفع المناصب ومن بينهم رؤساء وزرات ومحافظين ورؤساء وأساتذة جامعات وعمداء كليات، وبعضا من رجال الشرطة والجيش، ورؤساء شركات، ورجال أعمال، والذين تم تأهيلهم وإعدادهم فى منظمة الشباب.
.. وكان عبدالناصر مهتم اهتماما كبيرا وحريصا على اللقاء معهم بزيارتهم بمعاهدهم بل وكان يدير معهم حوارات مفتوحة ليعلمهم ويوجههم، وكنت مشاركا فى هذه الحوارات لكننى كنت لا أشارك فى المناقشات إلا قليلا رغبة منى فى أن اتعلم ممن هم أكثر منى خبرة.
وفى هذا اللقاء أثيرت قضية رأي وفطن عبدالناصر أنها تحتاج للمناقشة الواسعة من كافة الأعضاء ومن الحضور قائلا : أنا عايز أعرف رأيكم جميعا وامتد الاجتماع لعدة أيام وكان طبيعيا أن اشارك فى الحوار.. وطلبت الكلمة ثم ما لبثت أن وجدت عبد الناصر ينادى عليّ للتحدث وكانت مفاجأة بالنسبة لى حتى أننى عندما أعلن عن اسمى لم أصدق للحظة أننى المقصود، وعندما تردد اسمى أدركت أننى فعلا المقصود.. فوقفت متحدثا وناظرا لجمال عبد الناصر وكادت الكلمات تضيع منى ويبدو أنه لاحظ حالتى فابتسم قائلا : “مش أنت عايز تتكلم؟” فقلت : نعم يا افندم .. وقلت رأيى وظننت أنه كان الرأى الذى لا يستحق الاشادة ! والمفاجأة أننى وجدت عبد الناصر يشيد بما قلت.
ومع انتهاء اللقاء حرص عبد الناصر وهو خارج ناحيتى ليصافحنى ويقول: “ليه مابتتكلمش ؟!”.. وأضاف: “عليك أن تتكلم دايما”.
واعتقد أن هذه الكلمات كانت أكبر وسام حصلت عليه فى حياتى .
كما أتذكر أنه فى عام ١٩٦٩ كان هناك مؤتمرا لشباب المبعوثين المصريين، ويعقد هذا المؤتمر سنويا وكان عبدالناصر يحرص على اللقاء معهم لإعتزازه بهم وكان يوجههم لأهمية العوده لأرض الوطن وأن مصر بحاجة إليهم.
وكان أهم ما تناوله هذا المؤتمر أذكر أن وقف أحد المبعوثين يطرح عليه أن تكون القاهرة مدينة مغلقة واعترض على الاقتراح ! وأضاف بنوع من الفكاهة قائلا : أن أنور السادات سبق وطرح عليه هذا الاقتراح فقال له عبدالناصر وكان يجلس معه على المنصة : لا يا أنور لأن القرار ده لوكان صدر قبل دخولنا لكنا قد منعنا من دخول القاهره !.
وكان عبدالناصر يؤكد دوما أ نه لم يكن صانع الثورة بل كان تعبيرا لها وهو صاحب مقولة: إن الشعب هو القائد وهو المعلم .. ولعلنا لا ننسى ما كتبه الأستاذ محمد حسنين هيكل بأن جمال عبدالناصر طلبه ليسأله: “يا محمد بقولك هدى ابنتى خلصت كلية الاقتصاد والعلوم السياسية وهى عايزه تشتغل”
فقال له: “ده حقها”.
رد عبد الناصر قائلا: “تشتغل فين يا محمد دى أى حته تشتغل فيها حالها حيقف كل شوية بنت الرئيس دخلت بنت الرئيس خرجت والشغل حيقف فى اى حته حتشتغل فيها !”.
فعرض هيكل انه يأخذها عنده فى الأهرام والناس عارفه علاقتى بك وبالتالى مفيش مشكلة.
وبعد سنتين تخرجت ابنته منى من الجامعة الأمريكية وطلبت منه أنها تريد أن تشتغل فطلب صديقه هيكل ليقول له: “يبدو أنك حتكون مسئول عن الأولاد”،
فقال هيكل: “أخدها معانا”.
فرد عبد الناصر: “لا مينفعش”.
فقال هيكل: “أنا عندى عدة مراكز بيعمل بها زملائها من الجامعة الأمريكية”، فوافق عبدالناصر وتم تعيينها بمركز أراك للإدارة بمؤسسة “دار المعارف”.
وبعد شهر واحد شاهد عبدالناصر ابنته منى راجعه من الشغل تحمل بعض الهدايا فسألها: “أيه ده يا منى؟”.
.. فقالت له: “ما أنا قبضت مرتبى اليوم”.
فسألها: “قبضتى كام؟”
.. قالت: “٨٠ جنيه”، فقام عبدالناصر بطلب الدكتور سيد أبو النجا خبير الإدارة الدولى، ومدير مركز أراك وسأله عبدالناصر: “أيه أخبار منى؟”
فأشاد بها، فسأله عبد الناصر: “هى بتاخد مرتب كام؟”.
فظن الدكتور سيد أبو النجا أن عبدالناصر (مستصغر المرتب) فقال له إن “المرتب حيزيد بعد كام شهر”.
فقال عبد الناصر: “هى بتاخد كام؟”.. قال له: “٨٠ جنيه”.
وزملائها اللى زيها بياخدوا كام؟!
رد عليه: “بيتراوح بين٦٠ جنيه و ٨٠ جنيه”.
قال له: “يا دكتور لا هى تاخد المرتب الأصغر”.
ومرت عدة شهور وجاءت تبلغ أبيها أنها مسافرة لندن فسألها: “راحه تعملى إيه ؟!”.
قالت: “تدريب ٣ أشهر”.
فطلب الدكتور سيد أبو النجا ليسأله عن الموضوع فأخبره الأخير أن هناك برنامج لتدريب الباحثين الجدد بالمراكز الشبيهة.
فسأله عبد الناصر: “هل كل الذين تم تعيينهم معها سافروا؟”.
فجاوبه أنهم يسافرون بالدور و “كلهم بيسافروا”.
فقال له عبد الناصر: “تبقى هية تسافر آخر واحده !”.
ومعروف أن منى لم تحصل على المجموع الذى يؤهلها للإلتحاق بالجامعة فسأل وزير التعليم : “هل هناك حل لهذه المشكلة؟!”
.. فقال له الوزير: “نقبلها ضمن النسبة المستثناة وفقا لقانون الجامعة”ز
فسأله: “إيه موضوع الاستثناء؟!”
فقال الوزير: “إن القانون مخصص نسبة لأبناء أعضاء هيئة التدريس”.
فرد عبد الناصر قائلا: “وهو انا أستاذ بالجامعة؟!”.
رد الوزير” “سيادتك أكبر!”.
فرفض عبد الناصر ولجأ لحلال العقد محمد حسنين هيكل الذى أشار عليه بالجامعة الأمريكية وهى جامعه خاصة.
هذا هو عبدالناصر لمن لا يعرفه.. لقد كان منحازا للعدل والمساواة ومحدودى الدخل والفقراء .
ولعل أكثر مايضايقنيأان أكثر الذين إستفادوا بإنجازات ثورة ٢٣ يوليو الخالدة هم أكثر من يهاجمونها وكثيرون منهم ممن حصلوا على أعلى الدرجات العلمية وتمتعوا بالبعثات التعليمية وبالمجان وبعضهم كانوا يحصلون على المكافأة المالية وطوال فترة دراستهم وهم أكثر الناس هجوما على الثورة.. وللأسف ! منتهى الجحود والنكران للجميل.
وأتمنى أن نتسلح بالموضوعية وبالأمانة فى العرض.
و.. للحديث بقيه إن كان فى العمر بقية.