د. ناجح إبراهيم يكتب: وداعاً شهر رمضان
” وداعاً شهر رمضان ” تحت هذا العنوان كتب د. ناجح إبراهيم مقالا فى جريدة “الوطن” يودع فيه شهر رمضان المبارك الذى أوشك أن يغادرنا، بينما ينقل الكاتب، المشاعر المختزنة عن أيام وليال الشهر الكريم، يستدعيها، وينقلها للقارىء، وكأنها حدثت اليوم، وهذه ميزة الكاتب الصادق مع نفسه، المالك لحروفه، وكلماته، ولا نملك إلا أن نردد مع الكاتب: ” شهر رمضان جرعة إيمانية مركزة تشحن بطارية الإيمان”.
وفى التالى نص المقال:
لا أوحش الله منك يا شهر الصيام، لا أوحش الله منك يا شهر القيام، لا أوحش الله منك يا شهر رمضان، كلمات صدح بها المسحراتى فى ليلة شتوية تحت نافذة منزل أسرتنا فى السبعينات، كنت وقتها طالباً فى كلية الطب، هزتنى هذه الكلمات بمعانيها الرائعة وكأننى أسمعها لأول مرة، بكت عينى وقتها، تركت الكتب وذهبت إلى الصلاة مودعاً الشهر الكريم، وما زلت حتى الآن أعيش بقلبى ومشاعرى مع هذه الكلمات المودعة، أتأثر بالوداع عموماً ويؤلمنى كثيراً حتى لو كان مؤقتاً.
أدرك أن شهر رمضان لو طال عن ذلك ربما لا يتحمله الناس فلن تبقى أمة متوترة الإرادة، أو مستمرة على عزمات الإيمان طويلاً صائمة وقائمة وعابدة وذاكرة.
شهر رمضان جرعة إيمانية مركزة تشحن بطارية الإيمان، وربما لو زادت كمية الشحن فى البطارية لانقلبت لعكسها. الصيام جاء مع كل الأنبياء وفى كل الشرائع ومع كل الحيوانات والطيور، لكن وداع شهر رمضان مؤلم، إنه الضيف العزيز الكريم الذى يعشقه الجميع من مسلمين ومسيحيين، متدينين وغير متدينين، عبّاد وتجار، أما الأطفال فعشقهم لشهر رمضان لا حدود له؛ فمن الحلويات، إلى اللعب، إلى الذهاب للمساجد، إلى اللعب حول المساجد، خاصة لعب الكرة حتى صلاة الفجر وبعدها، ومشاركتهم فى زينة رمضان، وعشقهم لفوانيس رمضان، كل شىء فى هذا الشهر مبهج ويدعو للسعادة، وكأن هذا الشهر جاء ليسعد الجميع، حتى الملائكة تسعد فى رمضان وتكون قمة سعادتها هو نزولها فى ليلة القدر ومعهم رئيسهم المعظم جبريل عليه السلام «تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ»، شهر رمضان هو فرصة العمر، والصديق الصدوق، والصاحب الجميل، والضيف النبيل، كريم النفس، صاحب الجود والعطاء، يحبه كل من يعاشره ويتعامل معه، سواءً كان مسلماً أو غير مسلم، المسلم ينتفع به فى دينه ودنياه، وغير المسلم ينتفع به فى دنياه ويشعر معه بالوقار، فكم من مسيحى فى كل بقاع مصر كان شريكاً أساسياً فى موائد الرحمن، وكم من مسيحى شارك فى صنع الإفطار للصائمين فى الحى الذى يعيش فيه أو يعمل فيه.
شهر رمضان مر كعادته سريعاً، فما بين سماعنا للأغنية المحببة إلى قلوبنا «رمضان جانا وفرحنا به.. أهلاً رمضان»، وما بين أغنية «يا ليلة العيد آنستينا»، لم نشعر بالنهاية الحزينة للشهر، وما بين إعلان دار الإفتاء باستطلاع شهر رمضان واستطلاع شوال كأنها غمضة عين وانتباهتها، وما بين فرحتنا بزينة رمضان وفرحتنا بعدها بزينة العيد لا نكاد نشعر أننا عشنا هذا الشهر.
لقد هرب منا الضيف الكريم فجأة، بعد أن أسعد الجميع وأشبعهم وآواهم وأكرمهم ورفع عنهم الكثير من أوزارهم ونشر المودة والتكافل الاجتماعى بطريقة لا مثيل لها. تأملوا فقط ملايين كراتين الطعام التى وزعتها «مصر الخير وبنك الطعام والأورمان ورسالة والحصرى» وغيرها، فضلاً عن آلاف الأغنياء الذين وزعوا زكواتهم وصدقاتهم. طوال حياتى لا أجد محروماً فى شهر رمضان، وقد خبرت الحياة المصرية وعرفت الفقراء والأيتام وعايشتهم عن قرب، وأكاد أجزم أن أفضل فترة يستر فيها ويغتنى فيها الفقراء هى شهر رمضان، فهو شهر التكافل الاجتماعى حقاً، ولا تكاد تجد جائعاً فى هذا الشهر أبداً، بل إن الفقراء قد لا يتناولون اللحم بانتظام إلا فى هذا الشهر العظيم.
أى بركة ويمن لهذا الشهر العظيم، فهل تتركنا هكذا كالأيتام، فما تضلع متضلع من الصيام والقيام وقراءة القرآن إلا كان شهر رمضان هو بداية طريقه ومشواره الأول فى طريق هذا التضلع الإيمانى.
سلام عليك يا شهر رمضان، يا عيد الأولياء والأصفياء، يا خير الشهور، يا من قربت الآمال، وربطت الخلق بالخالق، رققت القلوب وقللت الذنوب، أعنتنا على شيطاننا وأنفسنا، وساهمت فى محو ذنوبنا وستر عيوبنا وتصفية نفوسنا، أزلت أحقادنا وخففت ثاراتنا وجمعت شملنا وأسرنا.
وداعاً إلى حين حتى نلقاك فى العام القادم إن شاء الله يا أطيب وأكرم ضيف، اللهم لا تجعله آخر العهد بالحبيب المغادر، اللهم أعده علينا أعواماً عديدة وأزمنة مديدة ونحن وشعوبنا وأحبتنا فى أتم عافية فى الدين والدنيا والآخرة.