د. قاسم المحبشي يكتب: اليمن وهجرة العقول وأشياء أخرى
شهدت عدن ومازالت تشهد حالة غير مسبوقة من مسلسل جرائم الاغتيالات خارج القانون، إذ بلغت منذ ما يسمى بـ(التحرير) قبل سبعة سنوات حدا مهول أكثر من ١٣٠٠ شخصا من خيرة الكوادر والقيادات السياسية والأكاديمية والعسكرية والمدنية والدينية والمدنية والشباب لقوا حتفهم في وضح النهار ، بعد أن تلقى بعضهم تهديدات مماثلة لهذا التهديد الأخير!.
وعلى الرغم من أنه تم القبض على عدد من المجرمين لكن الأجهزة المعنية والتحقيقات لم تفلح حتى الآن بالكشف عن ملابسات أي جريمة منها للأسف الشديد، ولاتزال معظم جرائم الاغتيالات قيد ضد مجهول.
وفي الوقت الذي كنّا نراهن فيه مع كل أفراد الشعب الجنوبي الباسل وجميع قواه ومنظماته وهيئاته المدنية والأهلية على أن التحرير سوف يكون نهاية لمسار طويل من المعاناة والخوف والحرمان والتدهور الشامل وبداية لمرحلة جديدة من استئناف الحياة الكريمة وتطبيع الأوضاع العامة في المدن المحررة وإعادة تأهيل وتنمية المؤسسات الرسمية بما يجعلها قادرة على القيام بوظائفها في ترسيخ الاستقرار والأمن والسلام وتفعيل أجهزة العدالة والحماية والخدمات وسيادة العدالة والقانون وإفساح المجال لإعادة الإعمار والبناء والتنمية وإعادة الأمل في القلوب والأذهان المحبطة من هول الحرب والدمار ؛ بما يجعل من عدن العاصمة المؤقتة للحكومة الشرعية والمناطق الجنوبية المحررة نموذجا إيجابيا جاذبا لتحفيز الناس في صنعاء عاصمة الشرعية اليمنية والمحافظات الخاضعة للقوى الإنقلابية لتحذوا حذوها في الرفض والمقاومة لحكم المليشيات الحوثية الطائفية التي تتوسع وتتمكن كل يوم عرضا وطولا، ليس لقوتها الذاتية بل لضعف وفشل الحكومة الشرعية في إدارة المعركة وإدارة الحياة العامة في المناطق المحررة.
اقرأ أيضا للكاتب:
-
د. قاسم المحبشى يكتب قصيدة فى عظمة مصر: «هنا وادي ملوك الأرض»
-
د.قاسم المحبشى يكتب: جدلية الذات والأخر وانفصام المشاعر
-
د. قاسم المحبشى يكتب: من قلب الظلام إلى ذاكرة الرحيل
وكم هو مشين ومثير للحيرة والأسى، أن تعيش عدن عاصمة الشرعية المؤقتة، والمحافظات الجنوبية منذ التحرير، حالة من الانفلات الأمني والفوضى العامة لم تشهد لها مثيلا، من حيث سلسلة جرائم وأعمال القتل والاغتيالات والنهب والتفجيرات النوعية التي ذهب ضحيتها قافلة طويلة من الكفاءات والنخب الاجتماعية من مختلف المجالات.
رجال دين وأئمة مساجد ومدراء إدارات وبنوك وضباط أمن وعسكريين وقيادات عمل مدني شابة وطلاب ومواطنين مدنيين عزل فضلا عن جرائم السرقات والنهب والسطو والفساد التي أوغلت في حرمات الناس والحق العام وشوهت وجه المدينة الحضاري بلا خوف ولا وازع ولا رادع فضلا عن حرب الخدمات التي تسحق الناس سحق الرحى في حين أن صنعاء الانقلابية والمحافظات التي تخضع لهيمنتها تعيش أوضاعا أفضل وانضباطا أمنيا بالمقارنة مع المناطق المحررة من جميع النواحي.
وعلى مدى أربع سنوات اغتيل في عدن أكثر من 1250 مواطن وضابط وجندي واستشهد 22 إمام وخطيب مسجد و 45 عملية تفجير وتفخيخ، و 100 عملية سطو مسلح ناهيك عن الحرائق والاختطافات وانتشار المظاهر المسلحة وغيرها.
ففي جامعة عدن وحدها تم اغتيال نخبة من الاساتذة والطلاب ومنهم :
البروفيسور الدكتور احمد صالح الصلاحي مؤسس وعميد كلية اللغات بجامعة عدن. اغتيل قنصا وهو يسير في الخط العام والأستاذة الدكتورة نجاة محمد مقبل عميدة كلية العلوم بجامعة عدن اغتيلت مع ابنها الوحيد المهندس سامح وحفيدتها في منزلهم بمدينة إنماء، والدكتور خالد صالح الشعيبي تم دهسه بطقم عسكري في المنصورة، والبروفيسور الدكتور صالح يحيى سعيد استاذ علم الاجتماع في جامعة عدن الذي مات في ظروف غامضة، وأمس محاولة اغتيال الدكتور محمد عبدالله عقلان نائب رئيس جامعة عدن لشؤون البحث العلمي والدراسات العليا نتمنى له الشفاء من الرصاص الدامية وغيرهم الكثير من الزملاء والزميلات الذي قضوا نحبهم قتلا أو كمدا أو ضيقا واختناقا.
والكثير من الزملاء تعرضوا للتهديد بالتصفية الجسدية ومنهم الأستاذ الدكتور محمد حسين السقاف عميد كلية الأسنان، والأستاذ والدكتور عيدروس محسن حسن اليهري رئيس قسم العلوم الأساسية في كلية الهندسة، والدكتور ناصر مقراط أستاذ الأدب العربي بكلية الآداب وغيرهم.
وهناك نخبة من خيرة الطلبة والطالبات تم اغتيالهم أو تهديدهم من مختلف كليات الجامعة ومساقاتها العلمية وما أقسى الحياة والعمل تحت التهديد والوعيد في بلد لا يوجد فيها ملاذا آمنا غير للحاكم وأعضاء حكومته وبعض قيادات الأجهزة العسكرية والأمنية المحمية بالعتاد الثقيل فضلا عن العصابات المسلحة التي تعرف كيف تدبر أمورها في بيئة منفلتة العدالة والنظام والقانون والأمن والحماية والسلام الاجتماعي العام والفردي، فاغلب سكان عدن من المدنيين العزل وليس بمقدورهم حماية أنفسهم بأنفسهم، وهذا في عدن المحررة كما قيل.
أما في صنعاء التي مازالت بأيدي المليشيات الحوثية فحدث ولا حرج، إذ لم تدمر الحرب المؤسسات العامة فحسب، بما فيها المؤسسة الأكاديمية، بل ودمرت النفوس والعقول، وسوف تترك آثارًا غائرة في صميم البنية الاجتماعية برمتها.
فعلى مدى السنوات الماضية عمت الفوضى العارمة، حيث تم اغتيال العشرات من أساتذة الجامعات اليمنية في صنعاء وتعز وذمار، والكثير من أعضاء الهيئة التدريسية، والتدريسية المساعدة اضطروا للهروب من جحيم الحرب وتداعياتها إلى بلدان مختلفة، ومن بقي منهم يعيش حياة شديدة البؤس والقسوة بسبب الحرمان من المرتبات المستحقة، لمدة أربع سنوات. هذا فضلًا عن الإجراءات الإدارية والتشريعية والمنهجية التي أقدم عليها الحوثيون [جماعة أنصار الله] في مناطق نفوذها، بتغيير شبه كلي للمؤسسات الأكاديمية في صنعاء، وما شابها من تغيير في الإدارة والمناهج والتشريعات والرموز والشعارات وإغلاق أقسام أساسية، وقمع الحريات الأكاديمية وغير ذلك، بما أعاد تشكلها على صورتها الأحادية.
هذا فضلًا عن أن الحرب المفتوحة على كل الجبهات قد أعادت تشكيلة المجتمع اليمني برمته، بما يشبع حاجاتها المهلكة؛ إذ بدلًا من أن تفتح أبواب الجامعات للشباب فتحت لهم معسكرات وجبهات قتالية، وقد أكلت الحرب عشرات الآلاف من الشباب الذين يفترض أن يكونوا في مدرجات الجامعة، وقد علمت بأن معظم الجامعات اليمنية تعاني اليوم من خلو مقاعدها من الطلاب، إذ غدت هياكل خاوية على عروشها.