عاطف عبد الغني يكتب: الكتابة خارج الصندوق (1) قبول الآخر

هذا موضوع أجلّت الخوض فيه كثيرًا، وترددت فى الكتابة عنه ونشره كثيرًا، ليس لسبب إلا لمعرفتى أن قارئه شحيح، والصابر على فهم معانيه ومراميه أكثر شحا، مع أنه ليس وجهة نظر خاصة بى ولكنه تاريخ مثبت ومتداول، وما مساهمتى الحقيقية تجاهه إلا أن أعدت تفكيك حوادثه وتركيبها كما تعلمت من أساتذة سبقونى، حتى تبدو صورة هذه الحوادث فى انعكاسها على مرآة الحاضر أكثر وضوحا وكشفا للحقيقة والاستيعاب.

هى كتابة خارج الصندوق، كتابة ليست للتسلية أو الاستهلاك الوقتى لذلك تحتاج منك بعض الصبر وقليلًا من الاهتمام والتركيز، أما غير ذلك فأنصحك أن تنصرف عنها إلى غيرها.


(1)

فى العصور الوسطى تعرضت جماعات اليهود التى تناثرت فى القارة الأوروبية لكثير من المذابح والاضطهاد والترحيل والطرد القسرى، كان يحدث هذا بسبب سلوك اليهود الذى ينطوى على عداء للمسيحية وللمجتمعات الأوروبية التى عاشوا فيها منعزلين على أنفسهم.
وبلغ الاضطهاد ذروته عقب سقوط دولة المسلمين فى شبه جزيرة أيبريا (أسبانيا) حيث عاش اليهود فى كنف المسلمين عصرهم الذهبى خلال القرن الرابع عشر إلى أن تم طردهم منها عام 1492م، وبعدها أنشأ البابا إينوسنت الثالث محاكم التفتيش لفضح الهراطقة والكفار الذين كانوا يتسترون بالمسيحية بهدف تخريبها من الداخل، ولم تكن هذه المحاكم موجهة بالأساس للبروتستانت المنشقين عن الكنيسة بقدر ما كانت موجهة لليهود الذين أعلنوا اعتناقهم المسيحية تُقية بينما ظلوا محافظين على يهوديتهم فى السر، وفيما أعلن بعضهم التنصُّر ظاهريًا تم طرد كثيرين رفضوا هذا السلوك.
هذا النفى وأعمال العنف والاضطهاد للعنصر اليهودى بسبب عقيدته أوحت إلى فيلسوف يهودى مولود فى ألمانيا عام 1726 يدعى «موسى مندلسون» لأن يبحث عن سبيل يفتح به الطريق لقبول واندماج بنى ملته من اليهود فى المجتمعات الأوروبية، وربما كانت هذه هى البداية الأولى لنشأة فكرة ومصطلح قبول الآخر وفى حالتنا هذه كان اليهودى هو الآخر بالنسبة للمسيحى.
ولما كان مندلسون لا يستطيع أن يزيل أسباب الكراهية المتجذرة فى الثقافة المسيحية فقد عمل على تفكيك العقيدة المسيحية ذاتها مثلما فعل من قبله الفيلسوف اسبينوزا اليهودى (1632م – 1677م) الذى انتقد الكتاب المقدس إلى حد التشكيك الصريح فى إلهامه السماوى، واستغل سبينوزا ومن بعده مندلسون حملة التنوير التى كانت أوروبا تعيشها وهى تنتقل من عصور الظلام إلى الحداثة فى نشر أفكارهما، أما مندلسون فقد صاغ فلسفته وفكره كامتداد لفكر «كريستيان وولف» فيلسوف حركة التنوير الأوروبية، و«ليبنتز» الفيلسوف العقلانى.. وخرج منهما بفكر علمانى Secular أعلى فيه من قيمة العقل وأهمية فصل أمور الدنيا عن الدين، والكنيسة عن الدولة، وتحت دعوى العلم والبحث فى عصر الشك أو العصر الأكثر دنيوية أعيد تقديم المسيح عيسى بن مريم على أنه ملك يهودى أو مسيح مخلِّص فشل فى المهمة التى جاء من أجلها إلى الأرض، وهكذا تم اختراق العقيدة المسيحية، وتصدير القلق إليها، وعرفت أوروبا لأول مرة فى تاريخها ما اصطلح على تسميته بدين العقل أو التأليهية «Deism» الذى عرَّفه فولتير فى قاموسه الفلسفى الصادر عام 1764 بأنه الدين الذى يلقن الكثير من الأخلاق والقليل من العقيدة وانتهى هؤلاء الفلاسفة إلى إعلان دين العقل الكونى أو الدين الطبيعى الذى يخص البشرية كلها ويمكن شرحه بالعقل المجرد، والذى يجب أن يقود المرء إلى احترام العقائد الأخرى (ومنها اليهودية بالطبع)، التى اضطهدتها الكنائس الأوروبية طيلة قرون وبمرور الوقت وعبر تمرير مثل هذه الأفكار، استقر فى أوروبا شكل جديد للدين تَمثَّل فى الدعوة إلى الله داخل القلب، تبنى هذه الدعوة الأشخاص المسحورون بالتنوير والمتعاطفون لأقصى حد مع دعاوى الحرية، ومنهم من ذهب مسافات أبعد عن الكنيسة وبدأ يستجيب للتغييرات الهائلة فيخترق محرمات دينية، حتى وصل الأمر ببعضهم إلى مرحلة التجديف والإلحاد، واخترع مذاهب وطوائف غريبة وصلت إلى حد عبادة الشيطان، لكن كان أكثر هذه المذاهب يدَّعى أنه يبحث عن الخلاص والوصول الوشيك لعالم جديد (new world) وهى تسمية سوف نصادفها كثيرا فى الأيام الحاضرة تحت مسمى العولمة.


(2)

..فى هذا التاريخ ذاته الذى كانت فيه أوروبا تنسلخ من العصور الوسطى إلى ما عرف بعصر التنوير والتمرد على الإله كانت تنتشر – بالتوازى – دعوة أخرى هدامة للمسيحية تتمثل فى الجمعيات والمحافل الماسونية، وكان اليهود فى الغالب وراء هذا النشاط الذى استقطب المتمردين على الدين المسيحى والكنيسة، وطقوس الماسونية وأدبياتها تتماهى إلى حد كبير مع اليهودية وعلى سبيل المثال نجد فى الرموز الماسونية نجمة داود تعلو المعبد الفرعونى، ويسمى الماسونيون الله: مهندس الكون الأعظم، وفى المحافل الماسونية يسمونه «يعبلون» وتكتب بالحروف اللاتينية «JABULON» وتنطق «جابول أون»، والمقطع الأول من اسم يعبلون فى اللغة العربية «يا» يختصر المقطع الأول من اسم رب الجنود اليهودى «ياهوه» وهو الاسم الأكثر تقديسا للإله فى اليهودية وكان قديما مجرد النطق به محرما على عامة الشعب اليهودى ومن يخالف ذلك فجزاؤه الموت حرقا!
أما المقطع الثانى من الاسم (بول) فتحريف لكلمة (بعل) وهو إله الكنعانيين الذين جاورهم بنو إسرائيل حين دخلوا فلسطين وتأثروا بعقيدتهم الباطلة، والمقطع الثالث (أون) هو الاسم العبرى لمدينة عونو المصرية القديمة مركز العلم ومهبط الحكمة الباطنية وعبادة الشمس، المعروفة عند الإغريق باسم «عين شمس».

طالع المزيد:

– عاطف عبد الغني يكتب: الدين والسياسة (٥) بهائى ولاّ ماسونى ؟!

– عاطف عبد الغني يكتب: الدين والسياسة (٤) البهائية سلاح وفكرة استعمارية

ومن عقائد الكهنة المصريين وديانات الشرق القديم المحلية وفلسفات الهند والصين، من هذه الخلطة العجيبة استلهمت الماسونية عقيدتها وإلهها وتلك العقائد التى يطلق عليها المعارف السرية أو الثيوصوفية من كل ذلك تم نسج مخططات الحركات الباطنية لهدم المسيحية والإسلام تحديدا،أما الماسونية فقد أصبحت فى العقود والسنوات الأخيرة مثل الموضة القديمة أو المرأة المشبوهة سيئة السمعة، لذلك عمل دعاة النظام الجديد أصحاب المخطط على استبدالها بأساليب جديدة مثل توحيد الأديان السماوية والأرضية والخروج بدين عالمى جديد، وفى سعيهم لإقناع الزبائن بهذه البضاعة المغشوشة يرددون أقوالاً مثل أن الأديان جميعها ليست إلا طرقًا مختلفة توصل إلى نهاية واحدة يسميها المسلمون: الله، ويسميها المسيحيون: الرب، ويسميها الهندوس: كريشنا، وتجنيًا للانحياز إلى أى من هذه الديانات يطلق أصحاب المخطط على اختراعهم الجديد:(دين القوة السامية المطلقة).


(3)

وفى سبيل نشر هذه الضلالات أنشئ العديد من المنظمات التى انخدع فيها المغفلون، وما أتاح لهذه الضلالات أن يتمدد إلا وجود مساحات من الفراغ الروحى بعد أن انسحبت مؤسسات الدين فى الغرب وخرجت من دائرة التأثير المباشر على المعتقدات وغفلت عن حركة العصر الجديد وفلسفاتها التى تخلط ما بين الدين والتمارين الروحية، والألعاب السحرية ومعتقدات الوثنيين الجدد، والمعتقدات الخرافية للقبالاة اليهودية التى تخرج الدين عن معتقد التوحيد، وكذا المعارف السرية.. إلى آخر هذه الأفكار والممارسات التى أنتجت فى النهاية هذه الثقافة العقائدية والقيمية.


(4)

وفى الثقافة الغربية تسود اليوم مفاهيم أديان الشرق الأدنى الهندوسية والبوذية مثل مفهوم الكارما (العاقبة الأخلاقية)، وأيضًا مفهوم البعث بعد الموت فى صورة كائن آخر (التناسخ)، هذه المفاهيم التى استقتها عقيدة النظام العالمى الجديد فى بحثها عن جانب روحانى يعضدها صارت هذه التقاليد والأعراف – إلى حد ما – مألوفة للغربيين.
.. وحجة أصحاب العصر الجديد فى لجوئهم لديانات الشرق الأدنى أنهم يبحثون عن الحقيقة كاملة، وأنهم ألم يجدوا هذه الحقيقة فى الديانات التقليدية مثل المسيحية والإسلام، بينما وجدوها فى ديانات الشرق الأدنى، حتى ولو كان يشوبها – من وجهة نظرهم – بعض التقاليد الخاطئة والغموض، وما هو فوق طاقة البشر، لذلك فهم يعملون على تنقيتها مما هو سلبى أو معارض للنفس فيها.

هذا هو جوهر عولمة الدين، أما الهدف النهائى الذى يسعى الداعون إليه والعاملون عليه فهو تذويب الديانات السماوية لخلق مجتمع عالمى كافر برسالات السماء، تحل تمارين اليوجا والنرفانا وعقائد الحلول والاتحاد والتناسخ فيه محل الإيمان بالله وبالمسئولية الفردية عن الأعمال وبالعاقبة وبالحياة الأخرى.. وتسقط منه فريضة الجهاد لصالح أكذوبة وخدعة السلام العالمى، أو للحقيقة الاستسلام العالمى وتسليط مقدرات الأقوياء على الضعفاء.

…………………………………………………………………………………………………………..

هذا المقال نُشر في مجلة “أكتوبر” يوم 25 – 11 – 2012 بعنوان: “الكتابة خارج الصندوق (1) قبول الآخر”

زر الذهاب إلى الأعلى