عبد الحليم قنديل يكتب: حرب باردة على مسارح ساخنة
المواجهة المحتملة بين الغرب والاتحاد الروسى على أوكرانيا، ومشهد التصعيد وصولا إلى حافة الهاوية بين الطرفين، الغرب ورأس حربته الولايات المتحدة الأمريكية، والطرف الآخر المتمثل فى الاتحاد الروسى، يراه الكاتب الكبير عبد الحليم قنديل، يعيد إلى الأذهان، ازمة خليج الخنازير التى كادت تودى إلى حرب نووية بين الغرب الأمريكى والشرق السوفيتى، حربا كان يمكن أن تودى بالعالم إلى الدمار الشامل، وتمحلى الحياة من على وجه الأرض.
مدخل مشوق لمقال تحليلى كاشف نصه كالتالى:
وكأن التاريخ يعيد نفسه ، كاتب روسى اقترح حلا لوقف استفزاز أمريكا لبلاده عبر “أوكرانيا”، ودعا للتفكير فى إقامة قاعدة صواريخ روسية فى “كوبا”، وكأنه يريد استعادة ما جرى أوائل ستينيات القرن العشرين، حين وقف العالم على أطراف أصابعه، وكادت أزمة “خليج الخنازير” تشعل حربا نووية، ووصل التوتر إلى مداه بين أمريكا والاتحاد السوفيتى وقتها، ولم تنزل الأصابع عن الأزرار النووية، إلا بعد التوصل إلى تسوية وتراجع متبادل، ألغت أمريكا بمقتضاه عملية غزو “كوبا” الشيوعية، وسحبت موسكو صواريخها النووية الاستراتيجية من قاعدتها المتقدمة فى “كوبا”.
وظلت “الأزمة الكوبية” مثالا كلاسيكيا تجرى العودة إليه، وبدواعى التحذير من مخاطر انفلات جامح على القمة الدولية ، ونشوب حرب نووية تدمر العالم كله عشرات المرات ، خصوصا مع عودة الحرب الباردة الجديدة ، ونشوء مسارح ساخنة على خرائطها ، وتطور استقطاب دولى جديد ، ظلت أمريكا والغرب طرفا فيه ، بينما الطرف المقابل يضم روسيا والصين اليوم ، وبقدرات تدمير نووية مضاعفة آلاف المرات ، قياسا إلى ما كان فى قصة “كوبا” الشهيرة ، وعلى مسارح ساخنة لصيقة بالصين وروسيا ، من “تايوان” إلى “أوكرانيا” ، وبدرجات أقل على مسارح أبعد فى “إيران” و”أثيوبيا” ، بينما توارى حضور “كوبا” ، التى ظلت على علاقة جيدة مع روسيا والصين ، لكنها لا تملك اليوم ترف المجازفة بالتورط فى الصراع الكونى المستجد ، وتحرص على مد جسور مع جارتها الأمريكية ، قد تساعد فى تفريج الكروب الاقتصادية .
فى “أوكرانيا” ، يبدو المسرح الملتهب ، كأنه استعادة لما كان بين موسكو وواشنطن ، مع فارق ملموس مرئى ، هو أن الخطر اليوم على حدود روسيا لا حدود أمريكا ، وقد كانت “أوكرانيا” من جمهوريات الاتحاد السوفيتى قبل تفككه ، وكسبت استقلالها أوائل تسعينيات القرن العشرين ، وعلى الخرائط ، تبدو أهمية أوكرانيا الحاسمة ، فهى أوسع دول أوروبا مساحة بعد روسيا نفسها ، وامتدادها غرب روسيا ومعها على سواحل “البحر الأسود” و”بحر أزوف”، لا يجعل موسكو مستعدة لتهاون ولا تسامح ، ولا قبول سعى حلف الأطلنطى لضم أوكرانيا إلى عضويته ، وتقدم شبكات الصواريخ الأمريكية الأطلنطية إلى حدود روسيا المباشرة ، وهو ما يعد “خطا أحمر” وتهديدا وجوديا ، يفسر خشونة التصرفات الروسية العسكرية ، فكما فعلت موسكو مع “جورجيا” من قبل ، وضمت مناطق منها إلى وصايتها ، وحالت دون انضمامها إلى “حلف الأطلنطى” ، فقد كررت موسكو التصرفات نفسها مع “أوكرانيا” ، وأقدمت على ضم شبه جزيرة “القرم” وميناء “سيفاستوبول”بضربة واحدة عام 2014 ، ولم تلق بالا للرفض الأمريكى والأوروبى عالى الصوت، وتحملت سلاسل العقوبات الاقتصادية المتوالية ، ثم نقلت المعركة إلى داخل ما تبقى من “أوكرانيا”، فاللغة الروسية معترف بها فى “أوكرانيا” كلغة رسمية ثانية، ونحو خمس سكان “أوكرانيا” من أصول روسية ، وقد دخلت موسكو طرفا مباشرا فى دعم كيانات انفصالية روسية بمنطقة “دونباس” ، تدير حربا ضد الحكومة الأوكرانية المركزية فى “كييف” سقط فيها عشرات الآلاف ، وتريد هى الأخرى الانضمام إلى روسيا على طريقة “القرم”.
اقرأ ايضا للكاتب:
وترعى موسكو مع أطراف أوروبية غربية ما يسمى “اتفاق مينسك” ، الذى يهدف لإقامة حكم ذاتى أوسع لجمهوريات الروس داخل “أوكرانيا” من نوع “دونيتسك” و “لوهانسك” ، ولا تكف موسكو عن وضع “كييف” تحت الضغط ، وتحشد على حدودها مئات آلاف الجنود والمعدات، وتجرى مناورات فى “القرم” وتجارب لصواريخ “اسكندر” المرعبة ، وبرغم نفيها نية اجتياح “أوكرانيا” ، إلا أنها لا تتوقف عن تسريب تهديدات باحتلال “أوكرانيا” حال ضمها لحلف الأطلنطى ، وفى حرب تستغرق أقل من 20 دقيقة ، فى حين أعلنت واشنطن أنها لن ترسل قواتها إلى “أوكرانيا” حال غزوها من روسيا ، وهو ما جعل الرئيس الأوكرانى “فولوديمير زيلينسكى” يعبر عن فزعه ، وعدم ثقته فى جدوى تهديدات الرئيس الأمريكى “جوبايدن” للرئيس الروسى “فلاديمير بوتين” ، فلم يتغير شئ على الأرض بعد قمة الاتصال المرئى المغلق بين بايدن وبوتين ، ولم تؤثر التهديدات بعقوبات اقتصادية قاسية لموسكو فى قمم السبع الكبار والاتحاد الأوروبى وقيادة حلف الأطلنطى ، وبادرت روسيا بفرض سيطرتها المباشرة على سبعين بالمئة من “بحر أزوف” ، وطردت السفن الأوكرانية ، فيما أبدت ألمانيا اعتراضها على تزويد حلف الأطلنطى لأوكرانيا بأسلحة متطورة ، وألمانيا هى الطرف الأساسى فى عقوبة الحد الأقصى التى تهدد بها واشنطن ، أى وقف توريد الغاز الروسى لألمانيا وأوروبا عبر خط “نورد ستريم ـ 2” ، وحاجة أوروبا إلى الغاز الروسى ، تبدو أقوى من حمية الدفاع عن أوكرانيا ، وردع تهديدات روسيا ، التى تبدو مستعدة لدفع الصراع إلى الحافة النووية وكسبه بالتخويف .
وفى “تايوان” ، تبدو القصة أعقد ، فليس لدى القيادة الصينية أدنى رغبة للقبول بانفصال واستقلال نهائى لدولة “تايوان” ، وهى تصر على استعادتها كجزيرة صينية لحضن البر الصينى ، إن سلما أو حربا ، بينما تبدو واشنطن حريصة على استقلال حليفتها “تايوان” ، وتواصل استفزاز بكين بكافة الوسائل ، بفرض العقوبات الاقتصادية التى لا تجدى مع الصين العملاقة ، وبعقد اتفاق “أوكوس” للغواصات النووية مع استراليا ، وبتحريك الغواصات النووية الأمريكية إلى بحر الصين الجنوبى ، وبخرق اتفاق “صين واحدة” الذى أبرمته مع بكين أوائل سبعينيات القرن العشرين ، وباستضافة “تايوان” رسميا فى قمة المائة الديمقراطية التى عقدها بايدن مؤخرا ، لكن بكين ترد بحزم ، وتحظر عمليا دخول الغواصات النووية الأمريكية إلى جوارها البحرى ، وتخوض “حرب ألغام” دمرت بعضها ، ومن دون أى إعلان حربى مباشر ، وتبعث بقاذفاتها النووية الاستراتيجية إلى سماء “تايوان” كل أسبوع ، وتعلن أن غزو “تايوان” وإخضاعها حال الضرورة ، لن يستغرق من قوات الصين سوى نحو سبع دقائق ، وأنها لن تستثنى من القصف قوات أمريكية إن وجدت على أراضى “تايوان” ، وكلها احتمالات خطر ماحق ، خصوصا أن الصين دولة نووية من عقود بعيدة ، وتستخدم فوائضها المالية الفلكية فى تطوير أسلحتها النووية والصاروخية والفضائية ، وبطريقة توحى بأنها قد تصبح القوة العسكرية الأضخم عالميا خلال سنوات ، والأعظم امتيازا بصواريخها فائقة السرعة ، وبتطورها التكنولوجى المتسارع بشدة ، وبخططها لإنشاء نظام مالى عالمى خارج هيمنة الدولار يلغى مفعول عقوبات واشنطن ، وهو ما كان موضعا لبحث جدى فى قمة اتصال مرئى قبل أيام ، جمعت بوتين مع الرئيس الصينى “جين شى بينج” ، ناهيك عن قوة بكين الاقتصادية والتجارية والمالية ، وهى صاحبة أكبر احتياطى نقدى فى العالم ، يقترب حثيثا من سقف الأربعة تريليونات دولار ، و”تايوان” بالنسبة للصين قضية قومية عظمى لا تفريط فيها ، ولا مانع عند بكين من دفع الأمور إلى الحافة النووية من أجل “تايوان” ، بينما لا تبدو واشنطن قادرة على كبح الصين بوسائل الحصار ، وبالضغط العسكرى التقليدى ، ولا المخاطرة بالتورط فى “حرب نووية” لا يفوز بها أحد .
وعلى مسرح الحروب بالوكالة والأصالة البعيدة عن حدود روسيا والصين ، لا تبدو واشنطن فى وضع يؤهلها الهجوم ، بعد خروجها المخزى مع الحلفاء الأطلنطيين من أفغانستان ، وتعثر دبلوماسية بايدن مع إيران ، ومصاعب التوصل إلى إحياء الاتفاق النووى الإيرانى ، وعبث التلويح بضرب منشآت إيران النووية تحت الأرض ، حتى لو جرى تكليف “إسرائيل” بالمهمة ، التى بافتراض إتمامها ونجاحها جزئيا ، فلا تبدو كفيلة بنيل المطلوب ، فقد راكمت طهران معرفة نووية يعتد بها ، وضرب المنشآت لن يعيقها كثيرا ، وسبيلها إلى القنبلة النووية سالك ، وقد لا تكون روسيا والصين سعيدتان بالقنبلة الإيرانية إذا صنعت ، لكن مقتضيات الحرب الباردة الجديدة تفرض اعتباراتها ، إضافة لأهمية إيران وجغرافيتها ومواردها فى الصراع الكونى المرشح للتفاقم ، وقد لا تغامر موسكو ولا بكين بخوض حرب دفاعا عن إيران ، ولا بدفع الصدام على القمة إلى حرب نووية من أجل طهران ، فإيران ليست “أوكرانيا” ولا “تايوان” ، بل مجرد مسرح يجرى التزاحم والتدافع عليه ، تماما كمسرح “أثيوبيا” التى تعانى من حرب دمار ذاتى شامل ، تحاول الصين دعم أحد أطرافها ممثلا فى حكومة “آبى أحمد” ، وبدواعى الخشية على استثماراتها الهائلة فى “أديس أبابا” ، وقد جرى تدمير وتفكيك ونهب مئات المصانع فى “الأمهرة” و”التيجراى” ، وأغلبها باستثمارات صينية ، وبدا للصين أن الحرب حسمت لصالح حليفها ، بالتفوق الجوى والطيران المسير ، لكن حروب العصابات على الأرض عادت مجددا بعد أيام ، وفى جولات كر وفر وسحق بلا رحمة ، وقد تنتهى فى زمن قريب إلى فناء أثيوبيا وتقسيمها نهائيا ، وبلا مبالاة أمريكية غالبا ، بقدر ما تفرح واشنطن بخسائر الصين وتآكل نفوذها .