ميّ رشدي صالح تكتب: حتى لو كانوا من عبدة الأوثان!
العدالة التي وضع أسسها الإسلام جائت في مجتمع مهترىء بدائي جاهلي، مجتمع يستنفد كل طاقات الدنيا في الغرائز الدنيا، فيه كل شقاء الموبيقات والإنحلال والتفسخ، فيه منحدرات الفساد العلني، حيث ترتع الأعلام على بيوت البغاء والعهارة وتشاد للقمار أندية، ولتعاطي الخمور مجالس تملأ عين الشمس في وضح النهار، وفيه الجهل القاهر، والظلم المتوارث، وفيه الشرك يحرق كل نبتة استقامة، أو اهتداء لرب العالمين، وفيه القبلية، والطبقية، والتعصب النوعي، والعنجهية، وفيه الكلام صنعة، والفصاحة بيان، وفيه الفقر يدق عنق الرجال، وفيه من الإنقسام الإجتماعي، والإنحطاط الإنساني، كل مايمكن أن يمس كبد الحقيقة بقول أو وصف .
ومع كل ذلك فهذه العدالة استشعرها رجال خرجوا من ظلمة هذا المجتمع الوثني إلى نور الهدى، نعم أن لكل هدى نور يسير في ضيائه من يؤمن، ونعم أن لكل إيمان نور وضياء يسير بصاحبه إلى وجهته التي يقصدها.
ونعم أن الإيمان بما نقصد في الحياة يحقق لنا ما نسعى سواء كان هذا الإيمان، إيماناً بفكرة أو مذهب أو نجاح أو هدف أو حتي أسلوب حياة.
أولئك الذين أمنو أن الإسلام عدالة ورحمة لمن دخل فيه ومن لم يدخل، استطاعو أن يقيموا دين الله فى الأرض، دون ميل ولا تعصب، فأراحوا الناس حين وقفوا عند ضياع الحقوق فأقاموها، وعند المظالم فرفعوها عن الناس دون محسوبية، ولا تفرقة بين أبيض وأسود .
أتى إلى أمير المؤمنين، علي ابن أبي طالب، أخاه عقيل وقد أعوزته الحاجة والفقر المدقع، فأصفرت وجوه عياله بسبب ما بلغهم من جوع وحرمان، وطلب من أمير المؤمنين “علي” أن يعطيه من بيت مال المسلمين ما يدفع به كربة الفقر عن أهل بيته، فلم يدفع له علي شيئاً، وحثه على أن يصبر على ابتلاء الفقر المدقع لأنه لا يملك أن يقف بين يدي ربه يوم لا ينفع مال ولا بنون، وهو المسؤل عن أموال المسلمين، وقد فرط فيها في أموالهم ودفع ولو بجزء منها لفقير مدقع، ولو كان أخاه في زمن غير زمن العطاء، وكيف يأمر بالعدل وهو ظالم لهم ؟!، وكيف يقتص للمظلومين وهو ظالم لنفسه أولاً بخيانته حفظ الأمانة وحفظ المال العام ؟
استمهل عليّ عقيلاً حتى جاء زمن العطاء فأثره بعطائه الخاص من مال بيت المسلمين ولم يخرج من المال إلا ما خصه هو .
وعلي الخليفة القائم على العدالة كان يصف الفقر بالموت الأكبر فيقول فى وصية لإبنه محمد بن الحنفية : ” يابني، إني أخاف عليك الفقر فأستعذ بالله منه فإن الفقر منقصة للدين، مدهشة للعقل، داعية للمقت “.
وهو حين يشخص الداء ويصفه يضع له الدواء بتطبيق عدالة الإسلام في المجتمع وبين الناس طالما أن الأمر بين يديه وهو الراع المسئول عن الناس جياعهم قبل سادتهم .
والناس الآن في مجتمع عرضت عليه الأديان كلها، وأخذ منهم كل من الهدي، ما أخذ، ولكن العدل لا يصل إليهم والفقر يدق مع كل طلعة شمس أعناقاً وأعناقاً.
وإذا كانت ظاهرة السرقة بالإكراه تسبق ظاهرة الأمن فذلك إن السارق الآن يسرق تحت ظروف مختلفة، ويأتي من منابت اجتماعية مختلفة، وتتجدد ومعها تختلف نوعية دواعي السرقة، أو النهب.
ومع تقلص الأمن الحياتي تتبعثر الأمور، وتكبر، وتتفاقم، وتتحول السرقة إلى أنواع أخرى من الجريمة، وتتخذ مأخذ أخر بعيداً عن فكرة السرقة لسد حاجة أو رمقة جائع .
وفي أوقات التدهور الإجتماعي، تتعملق الجرائم الإجتماعية، ويزيد الطين بلة، أنه لا محاسبة رادعة لمن تسول له نفسه الإعتداء على المجتمع بأي صورة من الصور، وستلتهم النيران الأخضر واليابس، لأن النسيج الإجتماعي الآن أصبح مهلهلاً وفي حالة رثة، بين فقر مدقع في شقوق داخل أفخر بنايات العاصمة، وبين تردي وتسيب وراء كل باب يمكن بغبقه أن يصد عن الناس فتن شخصية وعامة .
لا يمكن مع الفقر والجهل وعدم تحقيق العدالة أن تبرق بوادر تطوير بشري، بدون التطوير البشري كيف يمكن أن تبني امم ثابتة يعجز أعداؤها عن إزاحتها ؟! وكيف يمكن أن تستمر أجيال جادة في إستثمار حياتها في بناء أوطان لها وزن ورجاحة فى كافة الموازين العالمية؟!.
وبدون تحقيق العدالة لن تنام عين أرهقتها المظالم، أو الخوف، حتي لو كانت أمينة على هذا البلد، ولن تنام أعين تتربص في كل ظلمة لتقتنص وتنهب في غياب القانون والأمن.. حينئذ نكون في الرجوع القهقري لمجتمعات ضائعة لا محل لها في عالم يسود فيه الأقوياء بمقدار ما يحققون من عدل في مجتمعاتهم، حتى لو كانوا من عبدة الأوثان .