د. قاسم المحبشى يكتب: في أهمية الحوار الثقافي وتلاقح الأفكار
في تاريخ الأفكار منذ اليونان وأنت طالع كان حوار الأفكار هو أو وسيلة للتنمية الثقافية والفكرية وحينما يقول أحد الفلاسفة أو الكتّاب فكرة أو رأي يتم مناقشها والبناء عليها دحضًا أو رفعًا. ومن خلال قرأتي لتاريخ الفكر العالمي ساد في أوروبا الناهضة حركة الحوار العقلاني النقدي بين النخب المثقفة منذ عصر النهضة.
فحينما يكتب أحدهم مقالا أو بحثًا أو كتابا جديدا كان ينتشر في الدوائر الأكاديمية والإعلامية والثقافية بسرعة انتشار النار في الهشيم عبر الحوار والنقد والتقييم وهكذا كانت تتلاقح الأفكار بين البلدان الأوروبية.
وبمجرد أن نشر الفيلسوف الإنجليزي فرنسيس بيكون 1561- 1626م كتابه في نقد الأوهام تلقفته أوروبا كلها، وهذا الإيطالي الفيلسوف جيوفاني باتيستافيكو 1668- 1774م، حذى حذوه في نقده لأوهام المؤرخين في كتابه ” العلم الجديد والطبيعة المشتركة للأمم” تطبيق منهج بيكون في نقد أوهام المعرفة.
وبالمثل كان اثر الإنجليزي جون لوك في الفرنسي ديكارت بالغ العمق، ومن لا يعرف قول الفيلسوف الكبير كانط الذي قال: هيوم هو الذي أيقظني من سباتي! ومن الذي لا يعلم عن الحوار الذين دار بين الهيجليين الشباب.
وحينما نقرأ الفكر الأوروبي المعاصر نلاحظ تلك الحركة الفكرية الأخلاقة من حوار الأفكار بين النخب المثقفة والاتجاهات الفكرية التي تمثلها تلك النخب، ولا أحد يكرر أو يسرق ما قاله صاحبه.
وفي دراستي أزمة النخب العربية لاحظت أن ثمة غياب شبه كلي لهذه الظاهرة الثقافية المصاحبة للتنمية الثقافية النهضوية، إذ لا أحد يعترف بالآخر وحينما يكتب أحد الكتاب أو المفكرين فكرة جديدة وينشرها يصمت أهل الصنعة ولا يدخلون معها في حوار بناء بل يعيدون صياغتها أو سرقتها ونشرها بوصفها من بنات افكارهم ولا يشيرون إلى صاحبها الأصلي.
وهذا هو الذي جعل من مفكر عظيم مثل ابن خلدون وحيدًا مثل نخلة في الصحراء على عكس بيكون وديكارت وهيجل وماركس وهوسرل وفوكو ودريدا الذين تحولوا إلى مدارس فكرية واتجاهات منهجية مشهورة.
ومن تجربتي المتواضعة في الكتابة وجدت أن الكثيرين من أدعياء الثقافة في المجتمعات العربية لا يقرؤوا لبعضهم بعضا لهذا تجد فكرة كتبها أحد المفكرين العرب قبل مئة عام تطلع لك الآن في مقال لأحد الشباب ويحتفى بها وكأنها من بنات أفكاره وكل يسرق مقال من سبقه ويغير عنوانه.
ربما كانت اللحظة الحوارية الفكرية الوحيدة في تاريخ الفلسفة العربية الإسلامية هي تلك التي حدثت بين فيلسوف قرطبة ابن رشد وفيلسوف بغداد أبو حامد الغزالي وأنجبت تهافت الفلاسفة وتهافت التهافت.
وهكذا نحن لسنا في مجتمع النحل بل في مجتمع الصراصير، فمتى يتخلى العرب عن سلوك الصراصير التي لا تنمي بيتًا ولا تبقي عافية.
وفي طلب المعرفة الناس مثل النحل والنمل وثمة فرق كبير جدا بين عمل النملة والنحلة؛ النملة كما هو معروف ديدنها في البحث عن طعامها في الصيف وتخزينه في بيوتها الرملية لتقتات منه في الشتاء ولكنها تبقيه كما جمعته بدون أي تغيير أو تعديل أو تشكيل.
بينما النحلة تجمع رحيق الأزهار من كل الأشجار وتحمله إلى جباحها حيث يقبع أميرها وتعيد تشكيله في صيغة عسل مصفى فيه شفاء للناس.
أتذكر حكاية قرأتها لأحد علماء البيولوجيا في مطلع القرن التاسع عشر الميلادي كان مهتمًا بجمع كل أنواع المومياويات الحفرية من بقايا الكائنات الحية وكان يفاخر بجمعها في مختبره العلمي في ألمانيا وجعلها مزارا للعلماء والباحثين وذات يوم ذهب تشارلز داروين لرؤية المتحف البيولوجي فتعجب من قدرت الرجل على جمع كل هذه الحفريات الكثيرة جدا.
كان المختبر أشبه بمتحف أثري يعج بكل أنواع وأشكال جماجم وعظام الحيوانات وأجنحة الطيور والجلود والقرون والأسنان مصنفه باسمائها.
تفاصيل تعمي البصر وتذهل البصيرة؟ فاندهش داروين وقال عبارته الشهرية: ما المغزى الأخير من كل هذه التفاصيل وكيف يمكن إخراجها في رؤية نسقية كلية عقلانية لها معنى وتفيد المعرفة الإنسانية؟! فكان ذلك السؤال اشبه بقدح زناد الروح الفلسفية في عقل عالم البيولوجيا الشاب داروين فتمخض عنه أصل الأنواع.
وهو الكتاب الذي بوصفة أحدى الثورات العلمية في تاريخ المعرفة الإنسانية. المعرفة والفكر والثقافة تراكمية ويجب أن تكون بنائية خلاقة وليست مجالا للمفاخرة والمنافسة الصرصورية.
ونحن لا تفتقر إلى الرؤى والأفكار الجيدة بل نفتقر إلى الفضاء العمومي العقلاني الذي يجعل منها حالة حوارية منتجة.