د. قاسم المحبشى يكتب: الحضارة المصرية القديمة وفجر الضمير الإنساني
جاء في محاورة ألطيماوس لأفلاطون أن (صولن) ذهب إلى مصر يبحث عن تاريخ بلاده السحيق فقال له أحد الكهنة المصريين “يا صولن، أنتم الهليين تلبثون دوماً أطفالاً.. لا تعرفون شيئاً من كل ما كان في غابر الأزمان لدينا أو لديكم, أما نحن فقد سجلنا في هياكلنا حساب السنين التي مرت على حضارة وطننا هذا” ( أفلاطون، الطيماوس)
فجر الضمير كتاب يؤرخ لبزوغ الحضارة القديمة بوصفها سياسة وتنظيما وتشريعا.
وكلمة الحضارة civlisation ظهرت سنة 1734م، وهي تنحدر مباشرة من صفة حضري المشتقة من اللاتينية مثل civilite، وcite مدينة – حاضرة».
إذاً فمنذ البداية ارتبط مفهوم الانتماء إلى المدنية بجماعة منظمة، تمثل الدولة المدنية، أو تقوم مقامها دلالياً بمعنى التهذيب والتحضر، ومن هنا جاء معنى الكلمة اليونانية «polis» مدينة – حاضرة دولة، ومنها اشتقت الكلمة اللاتينية «politus» صيغة فعل «polin» هذَّبَ، مدَّنَ، وكلمة «politesse» التي مزجت وعدَّلت وميَّزت شيئاً فشيئاً بين مفاهيم التهذيب واللياقة وحُسن الأداء، ومفاهيم النظام العام والدولة والمدنية والحاضرة.
وأخيراً وُلِدَت كلمة «civilisation» حضارة من فعل «civilisen» حضر، وهي ترسم في أسرة الكلمات المتحدرة من كلمة «cite» حاضرة، معالم اشتقاقية تدور حول مفاهيم التربية «education» والترقي والتطور والتقدم والحالة المتقدمة المتفوقة، فالحضارة هي أولاً «فعل تحضير»، ومسار تصاعدي وتقدمي، يرمي من خلال التغيير إلى احتواء وإدماج أولئك الذين يظلون خارجها في البراري والأرياف والغابات، «المتوحشون البريون salvaticus»، ثم إن الحضارة هي جملة الصفات المكتسبة خارج الطبيعية، وهي أخيراً مجموع الظواهر المميزة للحياة في هذا العالم الخاص المتطور الذي بناه الإنسان المدني.
الحضارة من حيث المفهوم والسياق التاريخي تتميز عن مفهومَي الثقافة والمدنية لكونها تتصل اتصالاً لازماً بشكل التنظيم السياسي والقانوني والأخلاقي للمجتمع، إنها تعني العيش في مجتمع سياسي منظم بالدستور والقانون والضمير الأخلاقي، فكلما كان التنظيم الاجتماعي خاضعاً للقانون كلما كان أكثر تحضراً، وقد بدأت الحضارات في التاريخ بوجود الدولة في مصر القديمة التي كانت أول حضارة في التاريخ شرعت النظام والقانون والأخلاق والعدالة.
ويعد كتاب فجر الضمير للأمريكي جيمس هنرى برستد من أهم الكتب التي وثقت نمو وتطور الحضارة المصرية القديمة في بعديها السياسي والأخلاقي.
فطبقا لما يراه برستد، فإن مصر حسب الوثائق التاريخية التى وصلتنا عن العالم القديم إلى الآن، هى مهد حضارة العالم، وعن هذه الحضارة أخذ العبرانيون، ونقل الأوروبيون عن العبرانيين حضارتهم، وبذلك يهدم النظريات الراسخة فى أذهان الكثيرين القائلة إن الحضارة الأوروبية أخذت عن العبرانيين.
الآن يمكن أن تعرف قيمة هذا الكتاب بالنسبة للمصريين، فقد أظهر للعالم أن المصدر الأصلى لكل حضارات الإنسانية هو مصر.
ومن بين الأعمال الأدبية المميزة، التى توضح عظمة مصر ودعوتها الخالدة للتمسك بالعدل والحق وإنقاذ المظلوم مهما كانت مكانة الظالم، ما نعرفه بـ «شكاوى الفلاح الفصيح».
وتعد «شكاوى الفلاح الفصيح» من عيون الأدب المصرى القديم، وهى قصة مصرية قديمة عن قدم فلاح مصرى قديم يدعى «خو إن ــ إنبو» من منطقة وادى النطرون إلى منطقة إهناسيا فى بنى سويف مصر الوسطى.
وعاش فى عهد الأسرة التاسعة أو العاشرة أو ما يعرف بالعصر الإهناسى، وقد تعرض «خو إن ــ إنبو» لاعتداء من قبل نبيل يدعى «رنسى بن مرو».
وتبدأ القصة بتعثر الفلاح «خو إن ــ إنبو» وحماره فى أراضى النبيل «رنسى بن مرو»، فاتهمه المشرف على الأرض «نمتى نخت» بإتلاف الزرع الخاص بهذه الأرض، وبأن حماره أكل من زرع النبيل، فأخذ الحمار واعتدى على «خو إن ــ إنبو».
وذهب «خو إن ــ إنبو» إلى النبيل «رنسى بن مرو» بالقرب من ضفة النهر فى المدينة، وأثنى عليه، وبث له شكواه، فطالبه النبيل بأن يحضر شهودًا على صحة كلامه، إلا أن «خو إن ــ إنبو» لم يتمكن من ذلك، غير أن النبيل أعجب بفصاحة الفلاح، وعرض الأمر على الحاكم وأخبره عن بلاغة الفلاح، فأعجب الحاكم بالخطاب، وأمره بأن يقدم عريضة مكتوبة بشكواه. وظل «خو إن ــ إنبو» يكتب تسع شكاوى لتسعة أيام متواصلة يتوسل لتطبيق العدالة.
وبعد أن استشعر التجاهل من قبل النبيل، أهان «خو إن ــ إنبو» النبيل، فعوقب بالضرب، فرحل الفلاح المحبط، غير أن النبيل أرسل إليه من يأمره بالعودة، وبدل من أن يعاقبه على وقاحته، أنصفه وأمر برد الحمار للفلاح وإعجابًا منه بفصاحته، عينه مشرفًا على أراضيه بدلا من المشرف الظالم، «نمتى نخت» وأعطاه ممتلكات المشرف الظالم «نمتى نخت».
ولد جيمس هنرى برستد فى 27 أغسطس 1865 ورحل فى 2 ديسمبر 1935) وهو عالم آثار ومؤرخ أمريكى، من أشهر علماء الآثار والمصريات، فى العشرين من عمره.
كان بريستد يعمل فى مخزن أدوية، لكن أشار عليه معلمه و صديقه وليم رينى هارير بالذهاب إلى برلين لكى يدرس علم الآثار المصرية على يد العالم الألمانى الكبير أدولف أرمان ولما أكمل رسالته للحصول على الدكتوراه عام 1894 دعى للانضمام إلى الفريق الذى كان يعد قاموسا للغة المصرية القديمة، و كان معنى هذا أن يذهب إلى مصر و قرر برستد فى هذه الزيارة أن يكون واجبه الأول عمل سجل لكل النصوص الهيروغليفية التى تتضمن أى إشارة إلى تاريخ مصر.
وعاد برستد إلى مصر مرة أخرى بعد عشر سنوات فى عام 1905 و كان عمله الأساسى هو نقل نصوص منقوشة على بعض الآثار فى وادى النيل وشبه جزيرة سيناء.