عبدالحليم قنديل يكتب: ما بعد عملية «خاركيف»

قد لا تعدم من يقول لك ، أن روسيا سحقت عسكريا ، وأن ساعة النهاية تدق لصالح الجيش الأوكرانى ، الذى اجتاح بسرعة البرق مناطق تواجد القوات الروسية فى مقاطعة “خاركيف” ، واستعاد السيطرة على بلدات مهمة استراتيجيا من نوع “بلاكليا” و”كوبيانسك” و”إيزيوم” ، وبما ضاعف من نشوة الرئيس الأوكرانى الصهيونى “فولوديمير زيلينسكى” ، الذى زار “إيزيوم” قرب حدود روسيا محتفلا بالنصر، وقفز بجدول الضرب إلى سقف هلوسات المنام ، وأضفى من طبعه الكوميدى مزاحا منفلتا ، ففى ثلاثة أيام ، كلها تلت توقف الهجوم الأوكرانى ، زاد “الجنرال زيلينسكى” المساحة التى استولت عليها أو استعادتها قواته ، على طريقة مبارزات “الخواجة بيجو وأبو لمعة الأصلى” فى الاسكتشات المصرية الكوميدية الشهيرة ، وقال فى أول يوم أنها ثلاثة آلاف كيلومتر مربع ، زادها فى اليوم التالى إلى ستة آلاف كيلومتر مربع ، وأضاف إليها مددا فى اليوم الثالث جعلها ثمانية آلاف كيلومتر مربع ، ثم أصابت العدوى الجنونية بعض مساعديه ، الذين زاد أحدهم مساحة الاسترداد إلى سبعين ألف كيلومتر مربع ، ومن دون أن يغلق بعد مزاد الهلوسات ! .
الميديا الغربية المشجعة المتحمسة للأوكران على الدوام ، توقفت عند رقم “زيلينسكى” الأول ، وراحت تقارن مساحة الثلاثة آلاف كيلومتر مربع بعواصم الغرب الكبرى ، وقالت أنها تساوى مساحة “لندن” الكبرى ، وتساوى ضعف مساحة “نيويورك” ، ولم يتسع خيالها إلى مساحة الثمانية آلاف كيلومتر مربع التى زعمها جنرال الكوميديا ، فمدينة “خاركيف” نفسها ، التى هى عاصمة المقاطعة وثانى أكبر مدن أوكرانيا بعد العاصمة “كييف” ، لا تزيد مساحتها على 350 كيلومتر مربع ، وقد تركها الروس يعد بداية عمليتهم العسكرية مع التراجع عن حصار “كييف” ، واكتفت القوات الروسية بالسيطرة على أجزاء من مقاطعة “خاركيف” ، وما استعاده الأوكران فى العملية الخاطفة الأخيرة ، هو نصف ما كان تحت سيطرة الروس فى الأجزاء الشرقية من مقاطعة “خاركيف” ، وهو تقدم كبير بلا شك للقوات الأوكرانية ، التى لم تنكر دور التخطيط أو التسليح الأمريكى والغربى فى العملية ، ولا دور راجمات “هيمارس” الأمريكية ومدفعية “جيبارد” الألمانية المضادة للطائرات ، ولا التزويد بالمعلومات المخابراتية ، والإدارة الأمريكية المباشرة ، لكن صدمة الاجتياح السريع ، وبعيدا عن المبالغات والمضاعفات المساحية ، كشفت خللا ظاهرا فى إدارة عمليات القوات الروسية بالميدان الأوكرانى ، قاد لانسحاب فوضوى من بلدات مهمة بمقاطعة “خاركيف” ، ترك من ورائه أسلحة ومهمات روسية ، وزاد من وقع دراما الاجتياح الأوكرانى الخاطف ، ونقل الأوكران من خانة الدفاع إلى الهجوم لأول مرة فى سيرة حرب أوكرانيا الراهنة ، ولكن من دون أن يمثل ذلك نقطة تحول استراتيجى مؤثر ، وهو ما مالت إليه التصريحات الأمريكية الرسمية مع توقف الهجوم المباغت ، وبلوغه لنهايته ، فقد تحدث “أنتونى بلينكن” وزير الخارجية الأمريكية فى زيارة للمكسيك ، وقال بالنص “أنه من السابق لأوانه التكهن بنتائج الهجوم الأوكرانى المضاد” ، وبعد “بلينكن” تحدث الرئيس الأمريكى “جو بايدن” نفسه ، ومن قبله جنرالات البنتاجون ، ومالوا جميعا إلى عدم الجزم باعتبار ما جرى نقطة تحول حاسمة فى حرب أوكرانيا ، وأشاروا إلى ما وصفوه بوجود قوات عسكرية روسية ضخمة على الأرض الأوكرانية ، وإلى عدم التأكد من قدرة القوات الأوكرانية الحفاظ على مواقعها الجديدة .
وبديهى ، أن الأقوال الأمريكية أقل عبثية من تهيؤات “زيلينسكى” ، فأمريكا هى التى تقود الحرب ضد روسيا فى الميدان الأوكرانى ، وليس “زيلينسكى” الأشبه بعروسة “ماريونيت” تتحرك بالخيوط الممدودة ، وخلف أمريكا أكثر من ثلاثين دولة فى حلف شمال الأطلنطى “الناتو” ، ونحو عشرة دول أخرى من خارج “الناتو” ، تعقد اجتماعاتها العسكرية فى قاعدة “رامشتاين” بألمانيا ، وتضخ إلى الميدان الأوكرانى عشرات تلو عشرات المليارات من الدولارات ، وتفرغ مخازن سلاحها المتطور فى الحجر الأوكرانى ، وتقود العمليات على الأرض من مراكز عمل متقدمة فى “كييف” و”لفيف” وغيرها ، وكل هذا معروف ومعلن للكافة ، وحين كسر الروس موجة الهجوم المضاد إلى “خيرسون” جنوبا ، تحولت الخطة إلى هجوم مضاد فى شمال الشرق ، خصوصا بعد رصد ما جرى فى المعسكر الروسى ، ونقل عشرين ألف جندى من مقاطعة “خاركيف” لدعم الدفاع عن “خيرسون” ، وإبقاء أعداد محدودة فى قطاعات “خاركيف” الشرقية ، كانت نسبة عديدها واحد على ثمانية من قوات الهجوم الأوكرانى ، وهى المفاجأة التى غفلت عنها أجهزة مخابرات الروس ، ودفعت بعض قياداتهم الميدانية لاتخاذ قرار الانسحاب المخزى الأشبه بالفرار تجنبا لخسائر دموية محققة ، وهو ما أدى إلى ما جرى ، وإلى توجيه ضربة مجانية لهيبة الجيش الروسى ، يفوق تأثيرها المعنوى أثرها العسكرى الفعلى ، فهى مجرد عملية فى معركة متعددة الساحات ، ولا يزال الروس يحتفظون بالسيطرة على أجزاء من مقاطعة “خاركيف” ، ويقولون أنهم يعيدون تنظيم قواتهم هناك ، ويطمحون لإعادة السيطرة على بلدات ضاعت منهم فى أيام ، والتجاوب مع ظواهر سخط شعبى عند الشباب الروسى ، قد تدفع غالبا إلى كسر جمود ران على خطوط القتال على مدى شهرين ويزيد ، وهو ما بدا ظاهرا جزئيا فى ميادين مقاطعة “دونيتسك” المجاورة والأهم للروس ، حيث عاودت قواتهم تنشيط التحرك باتجاه المدن الثلاث الكبرى المتبقية خارج سيطرتها فى “دونيتسك” ، وهى “كراما تورسك” و”سلافيانسك” و”باخموت” ، التى تقدم إليها مسلحو جماعة “فاجنر” الروسية غير الرسمية ، وسيطروا على بعض القرى فى الطريق إلى “باخموت” ، برغم أن ردود أفعال “الكرملين” على ما يجرى بدت متحفظة ، ونفت وجود قرار بإجراء تعبئة عامة أو جزئية ، تضاعف عدد القوات الروسية المنفذة لما تصفه موسكو بالعملية العسكرية الخاصة ، وعديدها الكلى متواضع نسبيا قياسا للمهمة ، ولا يزيد فى أعلى تقدير على 150 ألفا ، إضافة لآلاف المتطوعين من مقاطعتى الدونباس “لوجانسك ودونيتسك” ، ويسيطرون على مساحات شاسعة من أوكرانيا ، تكاد تصل إلى نحو 180 ألف كيلومتر مربع ، إذا أضفنا مساحة مقاطعة شبه جزيرة القرم ، التى سبق لروسيا ضمها من أوكرانيا عام 2014 ، ومن دون قتال فعلى ، وهو ما يعنى أن ما يقارب الثلاثين بالمئة من مساحة أوكرانيا البالغة 603 ألف كيلومتر مربع ، صار فى يد روسيا ، وبحجم قوات لا يكاد يصل مع الحلفاء إلى ثلث عديد القوات الأوكرانية .
والمعنى فى المحصلة لليوم ، أن الاختراق الذى تحقق للأمريكيين فى مقاطعة “خاكيف” ، لا يعد بحال تحولا استراتيجيا فى مجرى الحرب ، بقدر ما هو ضربة معنوية هائلة للروس ، الذين لا تزال لهم اليد العسكرية العليا فى الميدان الأوكرانى ، وبوسعهم قبل غيرهم إنهاء الحرب أو توسيع نطاقها ، ليس فقط بالرد على ما حدث فى “خاركيف” ، بل فى تسريع عملية السيطرة على ما تبقى فى مقاطعتى “دونيتسك” و”زاباروجيا” ، وقد جرى تكثيف مضاف للهجمات الروسية الجوية والصاروخية بعد عملية “خاركيف” ، وإن كان لا أحد يعرف على وجه الدقة ما يدور بعقل الرئيس الروسى “فلاديمير بوتين” ، الذى لا يكاد يلتفت علنا إلى الجانب العسكرى فى الحرب متعددة المسارات ، ويركز على ما يصفه بفشل الحرب الاقتصادية الغربية وعقوباتها ذات العشرة آلاف صنف ، ويشدد حصار الغاز على أوروبا المنهكة ، التى عجزت عن التوصل لاتفاق بتحديد سقف تحكمى لسعر الغاز الروسى ، الذى توقفت غالبية إمداداته بالفعل عن أوروبا ، وشقت طريقها إلى أسواق أخرى ، أهمها سوق الحليف الصينى ، الذى تتجه شراكة موسكو معه إلى آفاق أبعد ، جرى تتويجها بلقاء “بوتين” مع الزعيم الصينى “شى جين بينج” مؤخرا فى “سمر قند” الأوزبكية ، فيما لا يكاد “بوتين” يلقى بالا لاتصالات الرئيس الفرنسى “ماكرون” والمستشار الألمانى “شولتز” المتجددة معه ، ويصمم على مراجعة اتفاق الحبوب الأوكرانية فى أقرب وقت ، ربما إفساحا فى المجال لعمل يعتزمه ، ويحقق به ما هو أوسع من الأهداف المعلنة لعمليته العسكرية الخاصة ، التى يحرص على تحجيم تأثيرها فى الاقتصاد الروسى ، ويراكم أموالا هائلة فى الخزينة الروسية ، قدرت “الإيكونومست” البريطانية فوائضها التجارية بما يزيد على 265 مليار دولار نهاية العام الجارى وحده ، وهو ما قد يوحى مع مؤشرات أخرى بقفزة واردة فى الميدان الحربى ، قد يعلن بها الحرب رسميا ضد أوكرانيا مع مطالع الشتاء ، ويزيد عديد قواته هناك إلى 500 ألف جندى ، وينتقل بالمعركة من تحصين مواقعه إلى دوائر الاجتياح الشامل ، بعد أن انسدت سبل التفاوض على ما يريد فى قوس الشرق والجنوب الأوكرانى ، وبعد أن بينت عملية “خاركيف” ، أن التناقض مع واشنطن صار حديا لأقصى درجة ، وأن الحسم العسكرى ، وليس مجرد التقدم العسكرى ، صار واجب الوقت الروسى .

[email protected]

اقرأ أيضا للكاتب:

زر الذهاب إلى الأعلى