عبدالحليم قنديل يكتب: مصير «زيلينسكى»
بعد أيام ، تكون الاستفتاءات المعلن عنها قد انتهت فى أربع أقاليم أوكرانية ، وأيا ما كان وصف هذه الاستفتاءات ، وخلافات اعتبارها حقيقية أو صورية ، فلن يغير ذلك شيئا من النتائج الواقعية على الارض ، وأهمها ضم هذه الأقاليم إلى روسيا رسميا ، وانتقال مقاطعات “لوجانسك” و”دونيتسك” و”خيرسون” و”زاباروجيا” إلى معية الأراضى الروسية ، إضافة إلى إقليم شبه جزيرة القرم ، الذى جرى ضمه إلى روسيا باستفتاء مماثل عام 2014 ، وهذه الأقاليم الخمسة تكون نحو ثلاثين بالمئة من مجموع الأراضى الأوكرانية .
ومن الخطأ اعتبار هذه الاستفتاءات مجرد ردة فعل لما جرى مؤخرا فى مقاطعة “خاركيف” ، حين استولت أو استردت أوكرانيا أجزاء كبيرة نسبيا من أراض كانت تحت سيطرة القوات الروسية ، وتراجعت الأخيرة إلى خط دفاع فى خاركيف على نهر “أوسكيل” ، وبدت القوات الروسية فى حالة هزيمة محدودة أو موقوتة ، بسبب قلة أعدادها فى “خاركيف” قياسا لقوات الهجوم الأوكرانى المدار أمريكيا.
وقد يكون هذا التقدم “الأوكرانى” قد زاد فى مخاوف سكان الأقاليم الأربعة المعنية ، ودفع المسئولون المعينون والمساندون للروس فيها إلى التعجيل بإجراء الاستفتاءات، لكنها لم تكن أول مرة يعلن فيها عن الرغبة فى تنظيم استفتاءات الانضمام لروسيا ، فقد تكررت الإعلانات مرات فى شهور الحرب السبعة حتى اليوم ، وتعتبرها الأغلبية الروسية القاطنة فى هذه الأقاليم نوعا من “العدالة التاريخية”، وهو التعبير نفسه، الذى جاء على لسان “ديمترى ميدفيديف” نائب رئيس مجلس الأمن القومى الروسى، وهو مقرب جدا من الرئيس الروسى “فلاديمير بوتين”، وتطلق عليه الميديا العالمية وصف “ظل بوتين” ، فيما ظل الرئيس الروسى لأيام فى حالة صمت باسم مخادع إزاء ما جرى فى “خاركيف”، وظل يكرر مقولته الثابتة عن الخطة التى يجرى تنفيذها بدقة و”حسب الجداول الزمنية المقررة”، ويركز على جبهة الحرب السياسية والاقتصادية مع دول الغرب وحلف شمال الأطلنطى “الناتو”، ويبدو فى ثبات عصبى مذهل وأحوال استرخاء نفسى.
وفجأة فعلها “بوتين” لاعب الشطرنج المحترف، وأجرى نقلة بدت صادمة لكثيرين، وقرر إجراء تعبئة جزئية لاحتياطى الجيش الروسى، وهو ما يعنى إضافة 300 ألف جندى روسى على الأقل لصفوف الخدمة فى حرب أوكرانيا، ومضاعفة عديد القوات الروسية هناك إلى ثلاثة أمثالها، وهو ما يتطلب بعض الوقت إجرائيا، ويوحى باستعداد روسى لحملة خريف كاسحة فى أوكرانيا، يفرض بها “بوتين” الأمر الواقع الذى يريده هناك، بعد أن انسدت كل سبل التفاوض مع واشنطن وحكومات “الناتو” ، التى تواصل إفراغ مخازن سلاحها فى أوكرانيا ، وتدفع بأكثر أسلحتها تطورا إلى الميدان، وتضاعف دعمها للرئيس الأوكرانى الصهيونى “فولوديمير زيلينسكى” ، وبعشرات تلو العشرات من مليارات الدولارات ، وصلت فى جانبها العسكرى وحده إلى ما يزيد على 15 مليار دولار من واشنطن إلى اليوم ، ودعم مماثل ويزيد من حلفاء أمريكا الأربعين، الذين يلتقون دوريا وسريا للتخطيط فى قاعدة “رامشتاين” بألمانيا ، وفى قاعدة أقرب للميدان الأوكرانى فى “بولندا”، وفى مراكز إدارة مباشرة للحرب من “لفيف” إلى “كييف” عاصمة أوكرانيا ، ويتصورون أن بوسعهم تحقيق الهدف الأمريكى المعلن مبكرا على لسان وزير البنتاجون الجنرال “لويد أوستن” ، وهو “إضعاف روسيا” وهزيمتها وتفكيكها إن أمكن .
ولا تخفى الأفراح والليالى الملاح فى الغرب والميديا الغربية بعد عملية “خاركيف” وقد صورت لمتابعيها والناقلين عنها، وهم كل وسائل الإعلام فى العالم تقريبا، أن هزيمة روسيا باتت وشيكة، بعد الذى جرى فى “خاركيف”، وأن الشعوب الروسية ستثور على “بوتين” ، وقد تخلعه عن قصر الكرملين ، بعد أن فشلت عشرات من محاولات المخابرات الغربية لاغتيال الزعيم الروسى.
وكانت الميديا الغربية نفسها، قد قتلت “بوتين” من زمن ، وادعت إحدى صحفها أن “بوتين” مات أوائل الحرب الجارية ، وأن الذى يظهر بديلا عنه هو إنسان آلى “روبوت” بنفس ملامح وحركات الرجل، وصحف بريطانية وأمريكية أخرى بدت أكثر تعقلا ، واكتفت بمزاعم مفادها ، أن “بوتين” يعانى من مرض مميت ، ونشرت عشرات التقارير المفبركة عن إصابة “بوتين” بسرطان الدم والشلل الرعاش ، ولم تتوقف المزاعم المثيرة للسخرية ، إلا بعد تصريح لمدير المخابرات المركزية الأمريكية “ويليام بيرنز”، وقد عمل فى السابق سفيرا لواشنطن فى موسكو ، وقال بوضوح أن “بوتين” فى صحة ممتازة وتكوين رياضى صلب ، بعدها خرست الميديا الغربية ، وإن لم تتوقف صحف وتليفزيونات الغرب الكبرى عن ترويج الشائعات المعجونة بالمخدرات ، وبدت فى صورة إعلام “أصفر” ، فقد مصداقيته بالكامل ، بعد أن سقطت روايات الهذيان عن مرض “بوتين” ، وعن ذهاب “سيرجى شويجو” وزير دفاعه إلى غرف العناية المركزة ، وعن عزل “شويجو” لثلاث مرات إثر هزائم مزعومة فى أوكرانيا، وسقوط قتلى بعشرات الآلاف من الجنود الروس، بحسب مصادر من المخابرات الأمريكية والبريطانية، بينما حسم “شويجو” الأمر بنفسه أخيرا ، وتحدث عن خمسة آلاف قتيل روسى فقط فى حرب أوكرانيا ، وهو ما لم ولن يسكت الميديا الغربية الكذوب، ولا مبالغاتها الفكاهية ، التى تروج اليوم لأشياء أخرى ، مفادها أن قرار بوتين بالتعبئة الجزئية أعظم دليل على فشل ويأس روسيا ، وهو ما يثير الشفقة العقلية والمهنية معا.
قتوقيت القرار وطبيعته ظاهر فى مغزاه المباشر، وهو تكثيف الاستعداد الروسى لما بعد استفتاء ضم المقاطعات الأربع المضافة ، وهو ما يعنى مباشرة ، أنها صارت واقعيا جزءا من الأراضى الروسية ، يتطبق عليها ما يجرى فى باقى أقاليم روسيا الشاسعة ، وتتوجب حمايتها بكل السبل بما فيها الاختيار النووى، بدءا باستكمال تحرير ما تبقى خارج سيطرة روسيا الفعلية فى إقليمى “دونيتسك” و”زاباروجيا” بالذات ، ثم وضع الكل تحت المظلة الروسية، التى تعتبر فى تحديثات عقيدتها النووية.
إن أى عدوان داهم حتى بأسلحة تقليدية على أراضيها يستوجب الرد الشامل ، وهو ما يضع حلف “الناتو” على حافة الهاوية ، فلن يجدى كثيرا دوام الاحتجاج بقواعد الشرعية الدولية ، ودول “الناتو” بالذات ، هى أول من انتهك وينتهك هذه الشرعية فى عشرات المرات ، وفى كافة قارات الدنيا، بينما روسيا تتحدث عن ما تسميه بالشرعية والعدالة التاريخية، وعن سوابق وخطايا منح أوكرانيا أراضى روسية خلال عقود الحقبة السوفيتية ، وعن نهاية سنوات الهوان وإذلال روسيا بعد تفكك الاتحاد السوفيتى أوائل تسعينيات القرن العشرين.
وقد أرغمت موسكو على احناء الرأس فى عهد دمية الغرب “بوريس يلتسين” ، الرئيس الروسى الذى كان مخمورا على الدوام، ووقع على “مذكرة بودابست” عام 1994 ، التى اعترف فيها بأوكرانيا على حدودها التى ظلت قائمة حتى عام 2014 ، قبل أن يبدأ السجال العسكرى والسياسى المتصل، ودعم الغرب لانقلاب 2014 على الرئيس الأوكرانى “فيكتور يانوكوفيتش” المقرب من روسيا، وبدء سيطرة من تسميهم موسكو أتباع “بانديرا” من الجماعات النازية المتحكمة بكييف، فى إشارة إلى “ستيبان بانديرا” زعيم الحركة القومية الأوكرانية فى ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين ، وقاتلت قواته مع قوات النازى “هتلر” فى الحملة العسكرية على أراضى روسيا والاتحاد السوفيتى السابق، وشاركت فى قتل 25 مليونا من الروس والسوفيت فى الحرب العالمية الثانية.
ولم تنس موسكو وقتها ثأرها من النازيين و”بانديرا” حين دخلت “برلين” منتصرة ، وطلبت من المخابرات الأمريكية والبريطانية تسليمها “بانديرا” ، الهارب وقتها إلى الشطر الغربى من ألمانيا ، ورفض الغربيون ، ووفروا الحماية اللصيقة للنازى الأوكرانى المطارد روسيا ، وإلى أن تمكنت المخابرات السوفيتية من الوصول إليه وقتله بسم “سيانيد البوتاسيوم” فى “ميونيخ” عام 1958 .
القصة ـ إذن ـ أكبر من أن تروى فى سطرين ، وعنوانها الراهن باختصار ، أن روسيا قررت الانتقال من مرحلة التقدم العسكرى فى أوكرانيا إلى مستوى تصعيد أعلى ، يهدف إلى الحسم العسكرى، وليس مجرد التقدم الأرضى، وضمان اليد العليا فى حرب أوكرانيا، وقد لا يكون إعلان “التعبئة الجزئية” هو نهاية المطاف، والأسابيع والشهور المقبلة ستكون حاسمة، وقد يكون التورط فى حرب نووية عالمية مستبعدا إلى حد كبير.
لكن معارك الاستنزاف المتبادل لن تنتهى قريبا على ما يبدو ، فالغرب مصمم على مواصلة الحرب حتى نهاية آخر أوكرانى ، وروسيا مصرة على إتمام أهدافها كاملة ، والأقرب للتصور ، أن روسيا ربما تلجأ إلى تكثيف الهجمات الجوية والأرضية بالطائرات والصواريخ وحشود الجنود المضافين بقرار التعبئة ، وربما تدمر ما تبقى من منشآت حساسة ، قد يكون بينها ما تسميه روسيا “مراكز صنع القرار” فى “كييف” ، وقد لا يكون “زيلينسكى” نفسه بعيدا عن الطلقات الروسية ، وقد يلقى مصير “ستيبان بانديرا” نفسه ذات يوم قريب .