«كليلة ودمنة».. ابن المقفع ومستويات القراءة
سردية يكتبها: محمد جادالله
ترك لنا ابن المقفع ترجمة رائعة وبسيطة لكتاب من أشهر الكتب التراثية القصصية في العالم هو كتاب “كليلة ودمنة”، ولا نجانب الصواب إذا قلنا ان هذه الترجمة تمتاز بدقة العبارات وبلاغة الأسلوب. ومن هنا آثرنا أن نقوم بعرض موجز لهذه القطعة التراثية الفريدة من نوعِها، نحاول من خلال هذا العرض بيان الخطاب الموجه للقارئ، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، بيان مستويات القراءة التي قد يتعرض لها القارئ.
تتصدر كتاب “كليلة ودمنة” ثلاث مقدمات، وتسمى كل منها باباً: الأولى يكتبها علي بن الشاه الفارسي ويتحدث فيها عن سبب تأليف كليلة ودمنة، حيث يسرد الظروف السياسية والثقافية التي سبقت تأليف الكتاب وتلك التي رافقته، ثم الغاية من المؤلَّف ذاته وأثره في تغيير الملك الهندي سياسته تجاه رعيته من التسلط والقمع إلى التسامح والتنمية.
ويختتم الفارسي مقدمته بالإشارة إلى تكليف كسري أنوشيروان الطبيب برزويه بجلب الكتاب من خزائن ملك الهند. أما المقدمة الثانية فتصف رحلة برزويه إلى الهند وحصوله على نسخة من الكتاب بمعاونة من أحد موظفي البلاط الملكي الهندي.
والجدير بالذكر أن ثمة سرداً لسيرة الطبيب برزويه منذ الطفولة حتى تكليفه بالحصول على كليلة ودمنة كان برزويه طلب إلى كسري تثبيتها في مقدمة الكتاب مكافأة له على عمله، حتى تكون تخليداً لاسمه وإنجازه. وتأتي هذه المقدمة (وهي الثالثة) قبل الباب الأول من كليلة ودمنة مباشرة.
طالع المزيد:
-
قصواء الخلالي: المصري القديم أول من اخترع نظاما للكتابة في العالم
-
تجربة التنمية فى جنوب السودان.. كتاب جديد
أما ابن المقفع فيضع مقدمته بعد الأولى والثانية وقبل الثالثة.
إن حرص ابن المقفع على ضرورة فهم المتلقي لخفايا النص جعله يتوقف طويلاً عند الاحتمالات التي قد يفهم بها القارئ قصص (كليلة ودمنة) ومقاصدها. ولهذا يتعمد ابن المقفع رصد المستويات (الحالات) المحتملة لقصور القارئ في قراءته أو في فهمه لما يقرأ. ولكي يضمن استيعاب القارئ لتنبيهاته يلجأ إلى الإتيان بقصص قصيرة يجعلها أمثلة على ما قاله وتوضيحاً له.
ويمكن إجمال تلك المستويات (الحالات) على النحو الآتي:
أ- ينبغي لمن يقرأ هذا الكتاب أن يعرف الوجوه التي وضعت له؛ وإلى أي غاية جري مؤلفه عندما نسبه إلى البهائم وأضافه إلى غير مفصح؛ وغير ذلك من الأوضاع التي جعلها أمثالاً: فإن قارئه متي لم يفعل ذلك لم يدر ما أريد بتلك المعاني. وإنه وإن كان غايته استتمام قراءته إلى آخره دون معرفة ما يقرأ منه لم يعد عليه شيء يرجع إليه نفعه. ومن أستكثر من جمع العلوم وقراءة الكتب، من غير إعمال الروية فيما يقرؤه، كان خلقياً ألا يصيبه إلا ما أصاب الرجل الذي زعمت العلماء أنه اجتاز ببعض المفاوز، فظهر له موضع آثر كنز. أي انه ألا يحسن القارئ استغلال جواهر المعاني المكنونة في قصص كليلة ودمنة.
ب- كذلك من قرأ هذا الكتاب، ولم يفهم ما فيه، ولم يعلم غرضه ظاهراً وباطناً لم ينتفع بما بدا له من خطه ونقشه؛ كما لو أن رجلاً قدم له جوز صحيح لم ينتفع به إلا أن يكسره. أي انه عدم فهم القارئ للمقروء، لأنه لم يتعمق فيه ولم يعمل على محاكمته وإدراك أبعاده.
جـ – ثم إن العاقل إذا فهم هذا الكتاب وبلغ نهاية علمه فيه، ينبغي له أن يعمل بما علم منه لينتفع به؛ ويجعله مثالاً لا يحيد عنه. فإذا لم يفعل ذلك، كان مثله كالرجل الذي زعموا أن سارقاً تسور عليه وهو نائم، فعلم به فقال: والله لأسكتن حتى أنظر ماذا يصنع، وأذعره؛ ولا أعلمه أني قد علمت به. أي أن ابن المقفع يدعو القارئ إلى العمل بما علم؛ فقراءته الكتاب واستيعاب ما فيه غير كافيين ما لم يعمل في حياته العملية بهذا العلم.
د- وقد ينبغي للناظر في كتابنا هذا ألا تكون غايته التصفح لتزاويقه، بل يشرف على ما يتضمن من الأمثال، حتى ينتهي منه، ويقف عند كل مثل وكلمة، ويعمل فيها رويته، ويكون مثل أصغر الإخوة الثلاثة الذي خلف لهم أبوهم المال الكثير، فتنازعوه بينهم فأما الكبيران فإنهما أسرعا في إتلافه وإنفاقه في غير وجهه، واما الصغير فإنه عندما نظر ما صار إليه أخواه من إسرافها، أقبل على نفسه يشاورها. وهنا يدعو القارئ إلى تجاوز المستوي السطحي للقصص والبحث عما فيها من (أمثال).
هــ – كذلك يجب على قارئ هذا الكتاب أن يديم النظر فيه من غير ضجر، ويلتمس جواهر معانيه، ولا يظن أن نتيجته الإخبار عن حيلة بهيمتين أو محاورة سبع لثور فينصرف بذلك عن الغرض المقصد. ويكون مثله مثل الصياد الذي كان في بعض الخلجان يصيد فيه السمك في زروق فرأي ذات يوم في أرض الماء صدفة تلالا حُسناً، فتوهمها جوهر له قيمه، وكان قد ألقي شبكته في البحر، فاشتملت على سمكة كانت قوت يومه، فخلاها وقذف نفسه في المال ليأخذ الصدفة، فلما أخرجها وجدها فارغة لا شيء فيها مما ظن. فندم علي ترك ما في يده للطمع، وتأسف على ما فاته. يعود ابن المقفع لدعوة قارئه إلى أن “يديم النظر” و “يلتمس الجواهر” في المعاني والمقاصد كما فعل سابقاً. فكان همه أن ينبه قارئه على هذه الناحية حتى لا يأخذ القصص بظواهرها لأن الغاية منها أعمق وأهم.
وفي خاتمة المقدمة يذكر ابن المقفع أن الكتاب مقسم إلى أربعة أغراض، ويصنف هذه الأغراض تبعاً لمستويات القراء وغاياتهم من قراءة الكتاب حيث يقول: أحدها ما قصد فيه إلى وضعه على ألسنة البهائم غير الناطقة ليسارع إلى قراءته أهل الهزل من الشبان، فتستمال به قلوبهم، لأنه الغرض بالنوادر من حيل الحيوانات. والثاني إظهار خيالات الحيوان بصنوف الأصباغ والألوان ليكون أنساً لقلوب الملوك، ويكون حرصهم عليه أشد للنزهة في تلك الصور. والثالث أن يكون على هذه الصفة، فيتخذه الملوك والسوقة، فيكثر بذلك انتساخه، ولا يبطل فيخلق على مرور الأيام، ولينتفع بذلك المصور والناسخ أبداً. والغرض الرابع، وهو الأقصى، وذلك مخصوص بالفيلسوف خاصة.