عاطف عبد الغنى يكتب: النسخة الرقمية من الاستعمار الجديد

عندما يُطلب منى تسجيل رقم تليفون جديد على جهاز هاتفى المحمول، بشكل تلقائى أمد يدى بالجهاز إلى ابنى الشاب إذا كان قريبا منى، وأطلب منه أن ينجز المهمة، ليس عن جهل منى ولكن عن شعور خفى بعدم الاستساغة، وأن الأمر أسهل على الشاب الذى يجاوز عمره بقليل الخامسة والعشرين.
أما أنا فأنتمى إلى آخر جيل لحق بدليل التليفونات، ذاك المجلد الضخم الذى كان حاضرا بشكل دائم إلى جوار “عدة” التليفون الأرضى السوداء، ومثل الجيل الذى سبقنا كنا ندون أرقامنا الخاصة فى “الأندكس والأجندة”، هذه الدفاتر التى استغنينا عنها الآن بالتخزين علىلا شريحة المحمول، وذاكرة الجهاز الذى لا يزيد حجمه عن كف اليد أو يصغرها حسب المودة والموديل.
والشباب الذى يبلغ الآن متوسط عمره الخامسة والعشرين، ينتمى إلى هذا الجيل الذى ولد فى سنوات فورة التحول الرقمى، وعندما استطاع أن يستوى جالسا وجد فى حجره جهاز المحمول، وربما جلس أمام شاشة الكمبيوتر قبل أن يتعلم المشى.
وأتذكر أنه من ضمن الألعاب التى أحضرتها لطفلى وكبيرهم لم يتعد الخامسة، جهاز “البرى كمبيوتر precomputer” ومعه مجموعة من “الديسكات disces” ولم يكن الجهاز رخيصا، لذلك سددت ثمنه على 12 شهرا، وكنت فى غاية السعادة يوم دخولى على البيت بالجهاز، يقينا أننى أجهز طفلى ليس للحبو ولكن للقفز خطوات واسعة نحو المستقبل.
وبعد مرور ما يقرب من ربع قرن، من اندماج الجيل الأول واقترانه بثورة المعلومات نسأل:  ماذا تحقق من أمل فى هذا الجيل؟! وهل حظوظه أحسن من حظوظ الأجيال السابقة ؟!، أو هو أسعد حالا مع – وأكرر – التدفق الهائل من المعلومات، والتى لا تعنى بأى حال المعرفة والثقافة.
وأرجو ألا تظن أننى أرغب فى الانتصار لجيلى، أو التعالى والنرجسية، بالانتقاص من جيل الشباب الذى يطلق عليه “الجيل زد Generation Z”، هذا الجيل الذى بدأ التأريخ لميلاد أفراده مع أول ظهور لنظام تشغيل الحاسب الآلى “الكمبيوتر” عام 1995 من خلال شركة مايكروسوفت.
وعندما اندلعت أحداث 25 يناير 2011 فى مصر، أثبت صبية هذا الجيل من عمر 16 عاما، أو أصغر قليلا حضورهم بشكل لافت، وكان لهم تمثيلا لا يستهان به من خلال روابط الألتراس”، وأرى أن هذه نقطة بداية جيدة يمكن أن ننطلق منها للتعرف بعمق على سمات هذا الجيل.
كما أسلفنا يبلغ اليوم متوسط أعمار المنتمين لهذا الجيل الـ 25، وبالتالى يكون أفراده قد التحقوا بسوق العمل بقوة، بل وبعض منهم مؤهل فى السنوات القليلة القادمة لشغل مراكز مؤثرة، ولعب أدوارا مهمة فى المجتمع، وهذا ما فطنت إليه مبكرا القيادة السياسية، وسعت لاحتوائهم وتوظيفهم اجتماعيا وسياسيا، لكن تبقى الكثرة الغالبة مازالت تبحث عن فرصة حقيقية لبدء حياتهم العملية.
لقد صنعت قبل عام تقريبا فيديو قصير عن الجيل زد، وكان ذلك قبل أن يتناول يطرح  أحدث مؤتمر للشباب، التعريف به، وبعدها انتهى أمر الحديث عنه تماما فى كل وسائل الإعلام، كدأب تعاملنا مع ظواهرنا المؤثرة، بفورة لا تلبث أن تهمد أو تخمد كالنار فى “القش”.
عود على بدء فإن دارسى سمات “الجيل زد” يؤكدون أن أبناء هذا الجيل يعيشون في عمق “الابتكارات التقنية”، ويطلقون علي الواحد منهم “DIGITAL NATIVE”، وترجمتها المواطن الرقمي.
ومن سمات هذا الجيل أيضا أن أفراده غير مؤدلجين، ويبنون أفكارهم فى الغالب على الاستهلاك المباشر القائم على الاختيار، لذلك فهم يختلفون كثيرًا عن الأجيال السابقة في الأولويات والاهتمامات، ونوعية القضايا التي تشغلهم ويدافعون عنها.
وأفراد هذا الجيل يتقبلون التغيير بشكل سريع، وأيضا يتقبلون أي فكرة جديدة من الأفكار التي تظهر.
ولأنه جيل العولمة والكوكبية، يتصف أبناء هذا الجيل على مستوى البسيطة بشىء من التجانس، بمعنى أنهم يتفقون في الأفكار والتصرفات، وكثير من المشتركات مع نظرائهم في مختلف دول العالم، وهذه أمور قد تبدو إيجابية، لكنها أيضا تحمل فى طياتها أمورا خطيرة.
وأخطر هذه الأمور – فى رأيىّ – أن هذا الجيل الذى يبنى تصوراته ومفاهيمه من خلال وسائل التواصل الحديثة الرقمية، والسوشيال ميديا، ودراما المنصات الرقمية، وألعاب الكمبيوتر المهندسة بما تحمله من فيروسات، يمكن أن تصيب الأدمغة هشة البنيان بعد غسلها، وإعادة حشوها بقيم جديدة تعادى توجهاتنا وقيمنا، وتدمر النموذج المعرفى للإنسانية الحقة المتسق مع العقيدة الدينية السليمة.
هذا هو الغزو الجديد، والاحتلال الوافد، والنسخة الرقمية من الاستعمار الناعم، فالحرب لم تعد مدفع ودبابة وصاروخ، الحرب نسق فكرية وثقافية يسلطها الغزاة لتجعل من المغزو تابع ثقافى، يسهل قياده وتطويعه، وخلعه من جذوره، وأسره فى حظيرة المستعمر، هذا هو الاستعمار الجديد.
والمدهش فى هذا الغزو – الآن – أن الغازى يهاجمنا بضرواة، ويملك كل يوم أرضا جديدة بينما المغزو من شعوبنا متقاعس عن الرد، ويبدو مستكينا أو مستسلما، ولا أعرف أن كان هذا من موضع قوة أو ضعف؟!
وأخيرا أدعو راجيا أن نبحث عن أمصال مضادة نحصن بها شبابنا من الجيل زد، والتاليين عليه، ضد هذه الثقافة الوافدة، وبقدر ما نستطيع، نعمل على تعميق ثقافتهم ووعيهم ليستطيعوا فرز الطيب من خبيث الوافد.

اقرأ أيضا للكاتب:

 

زر الذهاب إلى الأعلى