د. قاسم المحبشى يكتب: في محاولة فهم ما جرى وتحول العنف إلى ثقافة!
حينما تكون الثورة هي ثورة تحرير وطن من الاستعمار الأجنبي كما هو حال ثورتنا في ١٤ أكتوبر ١٩٦٣م بوصفها كفاحا مسلحا يكون العنف الأيديولوجي هو الطاغي.
وثورة أكتوبر شقت الطريق بالنار والحديد والكفاح المجيد وكانت أبرز الأناشيد الثورية التي هيمنت في تلك الفترة: “يالله يا رجال ما بتكون الإجابة إلا بالنار والمدفع والدبابة! برع برع برع يا استعمار.. من أرض الأحرار برع تياري بركان من أجل الإنسان.. أشعل في ردفان نيران الثورة”.
هذا المزاج الملتهب المفعم بالحماس الثوري هو الذي شكل ملامح الجمهورية الوليدة من رحم ثورة الكفاح المسلح.
ومنذ 67 تغير الفاعلون الاجتماعيون وتغيرت الأفعال والعلاقات والهويات والقيم والرموز والأسماء والصفات ومن ذلك الطبقات والصراع الطبقي والعنف الثوري المنظم والحتمية التاريخية.
كان الحماس الثوري بما يشيعه من سحر رومانسي آسر في اللحظة التي كان يجب أن يختفي؛ لحظة تحويل الثورة إلى دولة إي مؤسسة المؤسسات الحامية والضامنة للفاعلين الاجتماعيين المنضويين في إطارها.
وتكمن مشكلة العنف في تلك القيم الثقافية التي ينمطها في سلوك ومواقف واتجاهات الناس من خلال انخراطهم المباشر أو غير المباشر في ممارسته وعبر التعايش معه على المدى الطويل وكلما طال أمد تعايش الناس مع ظاهرة من الظواهر كلما تكيفوا معها واستبطنوها في أذهانهم وضمائرهم ونفوسهم وسلوكهم وقيمهم وثقافتهم، كنسق من الاستعدادات المكتسبة التي تحدد سلوك الأفراد ونظرتهم الكلية إلى ذاتهم وغيرهم ومجتمعهم وحياتهم وعالمهم.
وبغض النظر عن العنف الذي صاحبها وأسبابه فقد كان للثورة نتائج إيجابية مذهلة في تغيير حياة الجنوبيين لا تزال أثارها شاهدة حتى الآن أهمها؛ الاعتراف بأهلية جميع الأفراد بوصفهم مواطنين متساويين في الأهلية الإنسانية وفي الحقوق والواجبات بغض النظر عن خلفياتهم وهوياتهم الطبقية التقليدية والجندرية فلا رجال ولا حريم لا سادة ولا عبيد ولا رعية ولا رعاة ولا مشائخ ولا قبائل.
إذ حولت الثورة القبائل إلى جمهور أو شعب في الجنوب، وكان هذا هو أهم إنجاز اجتماعي ثقافي انثروبولوجي أحدثته بتوجهها القومي ألأممي الإنساني، ولازلت أتذكر شعار الثورة الشهير: (أنا قومي بن قومي وكل الشعب قومية)، فضلا عن التعليم والتطبيب المجاني وسيادة النظام والقانون والعدالة والمساواة.
غير أنها وقد غردت خارج السرب، دفعت ثمنا باهظا إذ كانت هي الثورة الوحيدة في المنطقة العربية التي انتهجت التوجه اليساري القومي والاشتراكية نهجا ونظاما رسميا.
وبسبب تخلف الواقع التاريخي وحصار المحيط الإقليمي، احتدم الصراع العنيف بين قوى الثورة ذاتها منذ الوهلة الأولى؛ بين جهتي التحرير والقومية في البداية وبين القوميين ذاتهم فيما يسمى بالخطوة التصحيحية 22يونيو 1969 التي أطاحت بالرئيس قحطان محمد الشعبي.
في تلك الحركة العنيفة تم تصفية عدد من قيادات الصف الأول ومنهم نائب الرئيس فيصل عبد اللطيف الشعبي، ومنذ ذلك الحين، حل العنف بديلا عن السياسة. فبعد انقلاب الخطوة التصحيحية العنيفة، جاء الدور لاحقاً على الرئيس سالم ربيع علي الذي تعود أصوله إلى مجتمع زراعي، لذلك فقد وجد في الاشتراكية الماوية الصينية طريقاً يمكن السير على ضوءه.
وفي عهده ازدهرت التعاونيات الزراعية وتم توزيع الأرضي المملوكة (للإقطاع) على الفلاحين المعدمين تحت شعار “الأرض لمن يفلحها وليست لمن يملكها”!.
وفي سبيل سد الاحتياجات الحيوية المتزايدة للدولة الجديدة في ظل الندرة الاقتصادية صدر قانون التأميم؛ تأميم الممتلكات والمؤسسات والعقارات والوكالات والمصالح الاقتصادية والتجارية التي كانت تعود للإدارة البريطانية ومن كان يعيش في كنفها من أشخاص وجهات تم تصنيفهم كقوى مضادة للثورة؛ الإقطاع والكومبرادور والبرجوازية الكبيرة والصغيرة، لصالح دولة العمال والفلاحين ذي التوجه الاشتراكي.
إلا أن تلك العملية لم تكف لسد الحاجة فاضطرت السلطة إلى اتخاذ إجراءات تقشفية صارمة وسيرت مسيرات في عدن تحت شعار “واجب علينا واجب تخفيض الراتب واجب وواجب علينا واجب إحراق الشيذر واجب”!.
وقد كان في نفس الوقت شعاراً لتحرير المرأة ومساواتها بالرجل.
وفي سياق ذلك، تم إصدار قوانين متقدمة جدا منها قانون الأسرة الذي حرم الزواج من ثانية ومنح المرأة حقوقها كاملة.
غير أن تلك الإجراءات الجديدة لم يكن لها أن تتم بدون القبضة الحديدة للدولة البوليسية الرهيبة، إذ تم التخلص من النخب التكنوقراطية المثقفة بطرق مختلفة ومنها حادثة سقوط طائرة الدبلوماسيين الشهيرة في إبريل ١٩٧٣م والتي راح ضحيتها عدد من قيادات الصف الأول فضلا عن الكوادر التي تمت تصفيتهم بالطرق السرية .
وفي سياق ذلك الجو المشحون بالريبة والشك والخوف والعنف والجريمة تردت الثورة في دوامة مهلكة من العنف، والعنف المضاد بين الرفاق فتم اغتيال الرئيس سالم ربيع علي في ١٩٧٨م إذ كان ينهج على طريق الاشتراكية الزراعية الصينية وكانت أدبيات ماو تسي تونج هي المهيمنة في زمانه واتذكر الكتيب الأحمر ونحن تلاميذ في الابتدائية وبعد ثمانية سنوات فقط انفجرت حرب ١٣ يناير ١٩٨٦ بين رفاق الحزب الاشتراكي اليمني.
وحينما يكون الحصان على شفا الهاوية، فلا يجدي شد اللجام لإيقافه!
بعد ذلك تغيرت قواعد اللعبة الدولية بانهيار المعسكر الاشتراكي الداعم الوحيد لجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية التي جعلت من الوحدة اليمنية أهم أهدافها النضالية فتمت الوحدة الاندماجية في نفق التواهي بين العليين بشخطة قلم، لتبدأ سلسلة جديدة من الأزمات، تخللتها حربيّ العام 1994 و 2015، وما تلا كل ذلك من نتائج كارثية ومصير فاجع لم يشهد له اليمن في جنوبه وشمال مثيلاً في تاريخه الطويل.
اقرأ أيضا للكاتب:
– د. قاسم المحبشى يكتب: من وحي الندوة .. عين شمس التي أحبها
– د. قاسم المحبشى يكتب: في غواية الفلسفة وعشقها