عبدالحليم قنديل يكتب: فلسطين الجديدة
خارج كل النصوص والمشاهد المحبطة ، بما فيها اتفاق “الجزائر” الأخير بين الفصائل الفلسطينية المتنابذة ، الذى فشل فى مجرد تشكيل حكومة وحدة وطنية فلسطينية ، ناهيك عن الصمت الدولى المتجاهل والتواطؤ العربى الرسمى ، خارج كل هذا الظلام وبالضد منه ، ينبعث ضوء باهر جديد من فلسطين المحتلة ، ومن القدس والضفة الغربية بالذات ، ومن مخيم “شعفاط” المقدسى ومن”جنين” إلى جبال “نابلس” ، المدينة التى يسمونها “دمشق الصغرى” ، لدواعى تشابه العادات وأشهى المنتجات الغذائية والاختلاط الشامى التاريخى وطرز المبانى فى شقها القديم ، وقد تحولت اليوم إلى قلعة كفاح و”عرين” للأسود ، وتواصل قوات الاحتلال الإسرائيلى حصارها حتى ساعة كتابة السطور ، بدعوى البحث عن قادة تنظيم “عرين الأسود” ، وهو حركة بلا قيادة معلنة ، وبلا تبجح ولا افتعال ، وشبابها يخفون الوجوه وراء اللثام الفلسطينى ، ويعلقون شرائط حمراء على فوهات البنادق ، رمزا لامتناعهم عن التورط فى أى خلاف فلسطينى ، ويوجهون دعوة جامعة سائلة لكل الفلسطينيين ، تحثهم على التوحد فى عمل شعبى ومسلح لكسر الاحتلال ، وبصفتهم من الفلسطينيين لا غير ، ودونما تحزب ولا انتساب لغير فلسطين وأحلام تحريرها من النهر إلى البحر .
ومن سنوات ، يحدثك الكثيرون عن انتظار انتفاضة فلسطينية ثالثة ، فى إشارة إلى الانتفاضتين الأقرب فى حياة الشعب الفلسطينى ، انتفاضة 1987 الأولى ، التى انتهت بعقد اتفاق “أوسلو” ، ثم الانتفاضة الثانية ، التى نشبت أواخر 2000 ، وانتهت بعد رحيل الزعيم الفلسطينى التاريخى “باسر عرفات” ، وكان إنجازها الأكبر هو جلاء قوات الاحتلال عن قطاع غزة ، فيما بدأ بعدها زمن من وهن ، مالت فيه قيادات فلسطينية إلى التكفير بالانتفاضات والمقاومة المسلحة ، والاستغراق فى آثام “التنسيق الأمنى” مع الاحتلال الإسرائيلى ، ومطاردة الخلايا الفدائية فى القدس والضفة الغربية ، وبالمقابل توالت حروب غزة البطلة الأربعة مع كيان الاحتلال ، ووصلت ذروتها مع حرب “سيف القدس” أواسط 2021 ، ومع معركة أقصر وقتا بعنوان “وحدة الساحات” قبل شهور ، صاحبت خروج أجيال الفلسطينيين الجديدة عن النص المفروض ، والتكامل المتزايد فى حركة الفلسطينيين داخل وخارج ما يسمى “الخط الأخضر” وأسوار الفصل العنصرى ، وتصاعد معدلات الحيوية الفائقة لشباب فلسطين المحاصر من كل جانب ، برغم محاولات الإلهاء وتزوير الهوية وتمييع الشعور والسلوك ، وانتفاخ ظواهرالفساد و”الاستزلام” والانجرار إلى استنزاف الروح الفلسطينية ، والإيحاء المتصل بأن سيرة الكفاح الفلسطينى صارت من الماضى ، إلا أن الحقائق على الأرض كان تأثيرها أقوى ، فقد توحش الاستيطان اليهودى فى زمن سلام “أوسلو” الموهوم ، ومضت عملية تهويد القدس إلى أقصاها ، وتضاعفت اقتحامات الإسرائيليين للمسجد الأقصى وكنيسة القيامة ، مع العذاب اليومى المرير للفلسطينيين عند حواجز قوات الاحتلال ، وتراكمت كل المآسى لتخلق جيلا فلسطينيا جديدا ، حول أغلب أيام فلسطين الجديدة إلى انتفاضات متدفقة ، تجاوزت العد الإحصائى إلى حركة لا تهدأ ، وكلما قمعت بعنف ، وبالقتل والأسر وهدم المنازل ، زاد لهيبها وإلهامها ، وتعدت العد الانتفاضى الثالث والرابع والخامس إلى آخر “الروزنامات” ، بانتفاضات السكاكين والدهس بالسيارات ، والعمليات الفدائية المقتحمة إلى الداخل الفلسطينى المحتل منذ نكبة 1948 ، من “النقب” إلى “تل أبيب” ذاتها ، ومن بؤر مقاومة تلقائية تكاثرت من “جنين” إلى “نابلس” و”الأغوار” إلى قلب القدس ، ومن دون إعلان عن انتساب إلى تنظيم فلسطينى معروف غالبا ، وتوالت أساطير فداء ، لن تكون آخرها أسطورة الشاب “إبراهيم النابلسى” ، الذى زغردت أمه فى عرس استشهاده ، وإلى القادة المجهولين لحركة “عرين الأسود” ، وإلى إبداع حلق الرءوس ، تيمنا وتشبها بصورة الفدائى العبقرى عند حاجز “مخيم شعفاط” ، وإلى التكبيرات المدوية على أسطح المنازل ، والتجاوب الواسع النطاق مع نداءات “عرين الأسود” ، فقد خرجت حركة الشعب الفلسطينى عن بيت الطاعة للفصائل و”الأبوات” ، وباتت صداعا مزمنا لكيان الاحتلال ، الذى كلما قتل وأسر لم يردع ، بل زاد فى اشتعال الجمرة الفلسطينية المتحفزة تحت الرماد ، وكلما ذهب شهيد أو أسير ، جاءت من خلفه قوافل الذاهبين للشهادة ، وهى تدرك أنها تكسب رضا الله والشعب المظلوم ، ولا تخسر شيئا غير قيودها وحياة الهوان تحت الاحتلال ، فقد اتحد المعنى المقدس عند الفلسطينى بتراب وطنه المغتصب ، وعند نقطة الاتحاد يكون الغليان ، والثقة فى وعد الله لعباده الصابرين المبادرين ، ودونما انتظار لمدد لا يأتى من الأمة خارج فلسطين ، ربما إلا الدعاء والتعاطف ، وأمل الامتناع عن ظلم ذوى القربى بالتطبيع الفاجر مع العدو ، وبالخيانة الصريحة ، ودونما انتظار أيضا لحوار أو مصالحات الفصائل ، التى لا تتفق أبدا على شئ فى المدى المنظور ، وكل ما يهمها توزيع وتقاسم كعكة السلطات الوهمية ، أو الاتجار بمعاناة الشعب الفلسطينى ، وكسب رضا أو عطف وتمويل دوائر دولية أو إقليمية ، وحرف القضية الفلسطينية عن جوهرها ، الذى كان ويظل قضية تحرير وطنى ، لا يمكن كسبها بغير مضاعفة تكاليف بقاء الاحتلال ، وليس بتيسير مهمته وخفض تكاليفها ، فلا شعب يكسب جلاء الاحتلال بغير الدماء ، ومهما كانت قوة الاحتلال ، وحجم قوته العسكرية والاقتصادية والتكنولوجية ودعمه الدولى ، وهو ما يبدو ظاهرا فى حالة كيان الاحتلال الإسرائيلى نفسه ، الذى تتزايد انشقاقاته وانقساماته وعجزه عن تكوين حكومة مستقرة ، ويدير انتخابات داخلية عامة للمرة الخامسة فى عامين ، لن تأتى بغير اتجاهات اليمين المتطرف ذاتها ، التى يصيبها الهلع من صحوة وبسالة الشعب الفلسطينى ، وتعتقد أن الإمعان فى قتل الفلسطينيين ، قد يمحوهم من التاريخ والوجود ، وأن انتعاش التطبيع مع حكام العرب قد ينقذهم ، ويعفى الاحتلال من سوء المصير القادم حتما .
وقد لا يكون من جدال كثير فى دواعى تفجر صحوة الشعب الفلسطينى الحالية ، من عينة انسداد أفق التسويات السياسية الموهومة ، تحت عنوان “حل الدولتين” وغيره ، أو استبدال هدف التحرير بدعاوى مقابلة ، من نوع تحسين حياة الفلسطينيين ، وتشغيلهم فى “إسرائيل” ، أو انتظار عون يأتى للفلسطينيين من أمة وعالم مشغول بألف قضية ونزاع ، فقد رسخ فى وجدان الشعب الفلسطينى من سنوات ، أنه لا أحد سينتصر لقضيته ، إلا إذا انتصر لها الفلسطينيون أولا ، وأن القضية آلت إلى الفلسطينيين أولا وربما أخيرا ، وهو ما زاد منسوب التصميم والثقة فى التعويل على قوته الذاتية ، خصوصا مع التحول المطرد فى أوزان الأغلبية السكانية على أرض فلسطين التاريخية كلها ، ورجحان الكفة لصالح التكاثر السكانى الفلسطينى ، إضافة لارتفاع المستوى النوعى للشباب الفلسطينى الجديد ، واتقان وسائط التواصل الجديدة ، وخبرة الاحتكاك المباشر مع العدو وجيشه وقطعان مستوطنيه ومتطرفيه ، ومعرفة نقاط قوته وضعفه ، وكلها عناصر مضافة ، ترفد صحوة الشعب الفلسطينى بمدد لا ينفد ، يجعله قادرا على إدامة الكفاح بسبل مبتكرة ، تحاصر أوضاع التراجع فى حركة الفصائل الفلسطينية المتقادمة ، وتقصف مزاعم نخبة “أوسلو” وسلطاتها ، وتدفع فى اتجاه قطع روابط البعض المشينة مع كيان الاحتلال ، ودعم اتجاهات إلغاء التزامات “أوسلو” المهينة ، وسحب الاعتراف السابق بشرعية مزورة لكيان الاحتلال الاستيطانى الإحلالى ، الذى لا تسقط خطاياه ولا مجازره بالتقادم ، ويفاجأ بصحوة الشعب الفلسطينى ، الذى خلقته المحن والخيبات خلقا جديدا عفيا ، وزال خوفه من جيش الاحتلال ، فالخوف شعور طبيعى عند الأفراد والشعوب ، لكنه يسقط عند امتلاء وعائه لحافته ، وعند بلوغ القمع والقتل ذروته ، وعند زوال الخيط الرفيع الفاصل بين الموت والحياة ، والشعب الفلسطينى خبر حياة الموات ، وصادف كل صنوف المتآمرين والمثبطين ، وبات يدرك أن لا حياة له إلا مع المقاومة الجماهيرية والفدائية ، فكل السبل الأخرى انتهت إلى بوار أكيد ، وإلى احتلال منخفض التكاليف ، والمقاومة وحدها هى التى تزيد وتضاعف تكاليف الاحتلال ، وتصل بالمحتلين تدريجيا إلى حافة النهاية ، عندما تصبح تكاليف الاحتلال أعلى من فوائد بقائه ، هكذا كانت خبرة كل الشعوب التى تعرضت للاحتلال ، وخبرة الجزائر المتحمسة اليوم لتوحيد الفلسطينيين مع الاحتلال الاستيطانى الفرنسى لمدة 130 سنة ، بل وخبرة الشعب الفلسطينى نفسه فى إجلاء الاحتلال عن “غزة” ، لا نعنى طبعا ، أن كل تحرك سياسى مناصر للحق الفلسطينى ليس له جدوى ، بل الجدوى تتحقق فقط على وقع المقاومة لا غيرها ، فالتاريخ الإنسانى ليس رصيفا لتسول المساندة والتعاطف ، بل مجال لعمل متكامل ، ينتظم فى حركته الشعب الفلسطينى كله بالداخل وفى الشتات ، ويعيد بناء حركة وطنية فلسطينية ، تليق بتضحيات الشباب الفلسطينى ، ومقاومته الجسورة المجددة المبدعة ، التى تقدم للعالم صورة فلسطين البهية ، وتعيد النجوم الحائرة إلى مداراتها الأصلية.