د. قاسم المحبشى يكتب: ذاكرة سمكة
هذا المثل يضرب لوصف الإنسان الكثير النسيان، وربما الشعوب في بعض الأحيان، فالسمك من الحيوانات التي يعتقد أن ذاكرتها لا تدوم أكثر من ثلاثة ثواني وهذا ما يجعل اصطيادها سهلا جدا.
إذ تبتلع الطعم في كل مرة وتنشب بها السنارة ولو كانت ذاكرتها قوية لما وقعت كل مرة في شباك الصياد مثلها مثل الفئران التي لا تستطيع التمييز بين الجبن الصحي والجبن المسموم!.
ربما تشترك معظم الحيوانات بما في ذلك الإنسان بملكة النسيان التي لولاها لتوقفت الحياة عند أول مأساة حدثت بين هابيل وقابيل.
فالذاكرة المفرطة مرهقة ومنهكة لا يستطيع حملها غير جهاز الكمبيوتر بوصفه جهازا آليا.
الآلات وحدها هي القادرة على التذكر بدقة متناهية أما الكائنات الحية فقد قدّر عليها النسيان في زحمة الحياة وانشغالاتها اليومية إذ تضيع منّا مواقف وذكريات وتفاصيل كثيرة جدا.
فالحياة الفورية المباشرة التي تعيشها الكائنات الحية في حاضر يضج بزحمة الحياة وتدفقها الدائم هي ما يجعل الحياة ممكنة.
وهكذا هي الأسماك التي تنسى الأشياء في غضون لحظات، وأنها تكاد لا تفعل شيئا سوى السباحة في المياه هائمة على وجهها حتى يلتهمها أحد الكائنات الأخرى.
فكيف ستكون حياة الكائنات الحية إذ ما منحت ذاكرة قوية تجعلها على حذر دائما من الحركة؟!.
تلك هي الحياة تستدرجنا إلى خضمها في كل لحظة من لحظات عيشها التي نمنحها تسعة أعشار من وقتنا بلا ماض ولا مستقبل، والتي تشكل فعلاً عصب الجسد الاجتماعي برمته أي “الحياة بلا مزايا” التي يسميها عالم الاجتماع جلبر دوران “بالجو الخانق” .
الحياة مغامرة دائمة في المجهول تلك طبيعتها فكيف يمكننا التوفيق بين ما نرغب؟ وما ينبغي أن نكون عليه؟ ومتى يمكن أن يصبحان شيئاً واحداً ذات يوم؟!.
أما ما ينبغي إن نكون عليه هو إن نكون كائنات اجتماعية مقيدة بالتاريخ، وما نريد أن نكون عليه هو أن نكون سعداء.
وهذا هو المركب الديالكتيكي للتاريخ البشري عند كانط أولاً ثم هيجل ثانياً.
لقد حاول كانط الجمع بين العقل واللعب، بين التاريخ تقدماً وبين خطة الطبيعة أو العناية الإلهية “بين السماء المرصعة بالنجوم فوق رأسي والقانون الأخلاقي في باطن نفسي، كما كتب فوق شاهد قبره.
وفي مقالة “فكرة عن تاريخ العالم من وجهة النظر العالمية، عام 1784” أراد الجمع بين وجهة نظر الاستنارة ووجهة نظر الرومانسية، على نحو ما فعل في نظرية المعرفة حين جمع بين المذهبين العقلي والتجريبي.
فهو من ناحية يسلم بعبث الإنسان وشره إذ تصدر أفعاله عن غرائزه الأنانية وإرادته الجشعة، ولكن من ناحية أخرى يرى أن هذه الحالة من عدم الاستقرار واضطراب الطبيعة الإنسانية هي نفسها وسيلة الطبيعة من أجل تقدم الإنسان.
هناك غاية طبيعية لكل أفعال البشر التي تبدو عبثية، فالحروب والتنافس والتدافع والطمع وتصادم الإرادات الفردية تصب في المحصلة الأخيرة في الخطة الشاملة للطبيعة.
هكذا جعل كانط أفعال الإنسان وسيلة يحقق من خلالها التخطيط الإلهي أهدافه في التاريخ العالمي.