د. قاسم المحبشى يكتب: أم الدنيا روح الإنسانية وضمير الحضارة
زرت معظم الدول العربية من الجنوب في اليمن إلى سوريا في الشام ومن بغداد في المشرق العربي إلى الجزائر في المغرب العربي الكبير وما بينهما.
في كل البلدان الصغيرة والكبيرة التي زرتها في أوقات مضت لغرض الدارسة والبحث والتفرغ العلمي والمشاركة في ملتقيات ومؤتمرات ثقافية وعلمية، لم أجد بلدا في رحابة أم الدنيا وموطن الحضارة الأولى وتنوع خيارات العيش الكريم فيها، رغم أنها أكبر بلد عربي في عدد السكان قرابة ١٢٠ مليونًا نسمة.
إنها أم الدنيا اسم على مسمى ومنها لا من غيرها بزغ فجر الضمير الإنساني بحسب هنري برستد في كتابه فجر الضمير الإنساني.
فروح الأمومة الحانية وحس الحضارة الإنسانية الراقية تسري في عروقها الثقافية مسرى الروح في الجسد ففي مصر لا توجد مخيمات خاصة باللاجئين رغم أنها تحتضن ملايين منهم ومن مختلف البلدان العربية والافريقية وربما غيرها، وهذا لا يحدث في اكثر البلدان تقدما في العالم.
لفت نظري تلك الروح المصرية الرحيبة في التعامل مع الوافدين إذ لا أحد من المواطنيين يشعرك بإنك غريبا أو أجنبيا أبدا من بواب العمارة وسائق التاكسي إلى مختلف الشرائح الاجتماعية الوسيطة والعليا، تجد الجميع يتعامل معك بوصفك إنسانا جدير بالقيمة والاحترام وهذا ربما لا يدرك أثره المصريين في قلوب وعقول الوافدين الذين خبروا تجارب الغربة والاغتراب في مختلف البلدان العربية وغيرها.
في أم الدنيا تشعر منذ الوهلة الأولى بإنك في مكان حميم لا يشعرك بالغربة والاغتراب أبدًا، وتلك خاصية مصرية بامتياز لم أجدها في أي بلد عربي زرتها.
وفي مصر فقط ثمة اندماج اجتماعي وثقافي قل نظيره، إذ تختفي كل الهويات والمرجعيات الاجتماعية والعقائدية والجهوية والأيديولوجية وتحضر الهوية الوطنية المصرية القوية، إذ لا تعرف من محدثيك أي إشارة أو نبرة تدل عن هويات أخرى غير هوية مصر الانسانية الحانية، وهذا هو أحد أسرار عافية أم الدنيا منذ الألف السنيين.
النزعة الإنسانية في مصر متجذرة في صميم بنيتها الحضارية والثقافية وليست حالة طارئة ولا متكلفة بل قيمة ثقافية راسخة منذ أقدم الاقدمين وبذلك وصفها القرآن الكريم: (ادْخُلُوا مِصْرَ إِن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ) (سورة يوسف:99) وقوله تعالى: (اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ) (سورة البقرة:61).
إنها كنانة الباحثين عن الأمن والأمان والعيش الكريم، ومن خبرتي المتواضع بالعيش القصيرة في مصر لاحظت إنها البلد العربي الوحيدة التي تمنح الوافدين كل مزايا العيش الكريمة بوصفهم موطنين، لا مقيمين، فلا تمييز ولا تفضيل ولا احتقار ولا تنقيص ولا تهميش وتكبر ولا غرور، وبمقدار ما تحترم نفسك تحترمك مصر وتمنح الفرصة الكاملة للتعبير عن نفسك وقدراتك وهذا دونه خرط القتاد في البلدان العربية الأخري.
إنها تمنحك الفرصة الكاملة لأن تكون ما تستطيعه فإذا كان لديك ما تفعل وتقوله وتبدعه ففي مصر تجد التحفيز و والتقدير والاحترام، فكم هي تلك المواهب العربية التي وجدت ذاتها في مصر ولمع نجمها منها وفيها؛ بالأدب والفكر والعلم والثقافة والفنون والدراما والصحافة والإعلام والسياسة والشريعة والحقوق والاقتصاد والاستثمار وفي مختلف المجالات والتخصصات.
تداعت تلك الخاطرة إلى ذهني اليوم في مكتبة مصر العامة ونحن في الملتقي القيادات الإنسانية الأول؛ حفل تكريم رواد الإعلام والصحافة في الوطن العربي الذي نضمنه الأكاديمية الدولية للدراسات والعلوم الإنسانية بالتعاون مع الدولية لريادة الأعمال ودعم المرأة.
وقد تشرفت بدعوة رئيس الملتقي الدكتور جابر الكامل لي للجلوس على منصة الملتقى مع نخبة من علماء مصر والوطن العربي وصفوته من النوع الاجتماعي.
كان ملتقى مصري عربي إنساني بحق وحقيقة زخر بحضور نوعي من القيادات الإنسانية المصرية والعربية من مختلف الاقطار ؛ اليمن وليبيا والسودان ولبنان والمغرب العربي والخليج العربي وفلسطين وغيرها.
وقد سنحت لي الفرصة بتقديم مداخلة عن مشروع المشترك الثقافي العربي ودوار الإعلام الجديد في تفعيل القوى الناعمة الكامنة في مستودع الهوية العربية الزاخر بالممكنات الكنوز الثقافية المشتركة الجديرة بالقيمة والأهمية والاعتبار والتي تحتاج إلى اعادة تفعيل وتوظيف بما يخدم تجاوز التحديات الراهنة التي تحيق بالعالم العربي من جمع الاتجاهات ومصر في قلبها.
وفضل مصر على العالم والوطن العربي تحديدا كبيرا جدا وليس هناك دولة أخرى كان ولازال لها الدور الأكبر في حماية العرب وتنميتهم في مختلف المجالات، فهي صمام الأمن القومي العربي السياسي والعسكري والاقتصادي والثقافي والتربوي والتعليمي والفكري والثقافي والديني فمن ذا الذي ينكر دور أم الدنيا على كل المجتمعات العربية منذ أقدم العصور؟.
وذلك له أسبابه منها: موقعها الجغرافي الاستراتيجي وتاريخها الحضاري التليد ومساحتها الكبيرة وثروتها البشرية فهي الدولة العربية الأوسطية الكبيرة التي تحلق بجناحين أفريقي وآسيوي، إذ تقع في الركن الشمالي الشرقي من قارة أفريقيا، ولديها امتداد آسيوي، حيث تقع شبه جزيرة سيناء داخل قارة آسيا فهي دولة عابرة للقارات وفيها لا بغيرها بزغ فجر الضمير الإنساني وشيدت أولى عجائب الدنيا السبع؛ الاهرامات وتعد متحف الحضارة البشرية بلا منازع إذ احتفظت بثلثي كنوز آثار التاريخ البشري.
إنها أم الدنيا اسم على مسمى. ولا توجد لدى العالم العربي نقطة ارتكازا محوريا غيرها.
إنها عبقرية المكان، وذاكرة الزمان، والجغرافيا تحضر بطرق شتى لكن التاريخ هو ذاكرة المكان والزمان، وفِي مصر فقط يمكن رؤية ذلك العناق الخالد بين أفريقيا وآسيا والأطلسي بين المكان والزمان، بين الجغرافيا والتاريخ، بين الناس والوطن بين الخاص والعام.
هنا الدولة العربية الأكبر سكانا ؛ قرابة ١٢٠ مليون نسمة تنمو وتزدهر وتسير بثبات صوب المستقبل رغم الحصار الشديد الذي يطوقها من كل حب وصوب.
إنها أم الدنيا التي مابرحت تعانق السماء وتتطلع إلى الفضاء منذ أقدم العصور، فحينما كانت شعوب الدنيا تعبد الأصنام والأوثان الحجرية والتمرية والأشجار والحيوانات الطوطمية كانت أم الدنيا تتطلع إلى الأعلى حيث تقيم الآلهة التي تؤمن بها الشمس والقمر والنجوم – آلهة الزرع – الآلهة الحيوانية.
وحينما كان أهل الأرض قاطبة يحفرون الترب لدفن موتاهم وملوكهم كانت مصر الفرعونية تشيد الأهرامات العالية قبورا للملوك والملكات.
وحينما كانت نساء الدنيا جواري وسبايا كانت الملكة كيلوباترا سيدة الدنيا تدق أبواب روما، وفي القاهرة أكبر العواصم العربية مساحة وأكثفها سكانيا على مستوى العالم كله يمكن مشاهدة ثقافة الهمة العالية الراسخة في وجدان المجتمع المصري شاخصة في فنها المعماري الزاخر بالبروج الشاهقة.
وفي مصر لا بغيرها شيّد السد العالي.
بيت العز يا بيتنا. ولا عزة ولا قيمة ولا أهمية للعرب بدون مصر، بمصر وقوتها نكون أو لا نكون! تلك هي خلاصة المعنى، “اعطنِي نُقطةً أرتكاز محوري وعصىً طويلةً بما يكفي، وسأحرّكُ العالم” ارخميدس، فهل لدى العرب اليوم محور ارتكاز غير أم الدنيا؟.
كان ملتقى ثقافيا إعلاميا إنسانيا رائعا على مدى ستة ساعات متواصلة استمعنا إلى جملة من المداخلات المهمة من السيدات والسادة الكرام الذين سعدت بالاستماع اليهم.. واليكم الصور.