عبدالحليم قنديل يكتب: كأس «المونديال» لفلسطين
لست كرويا للأسف ، ولا رياضيا بعامة ، ربما باستثناء عادة “المشى” اليومى الإجبارى أحيانا ، ولم أشاهد مباراة واحدة فى “مونديال” قطر المتوالية مفاجآته ، وإن تابعت بشغف مشاعر المشجعين المتوافدين كالطوفان ، ولحظت بسعادة غامرة ردود أفعال المشجعين العرب بالذات ، ولفتتنى بشدة مشاعرهم القومية العربية الجارفة ، وابتعادهم عن التحيزات القطرية الضيقة ، ونصرتهم الحماسية لكل فريق عربى يحقق إنجازا كرويا ، على نحو ما حدث مع الفريق السعودى “الأخضر” ، الذى هزم منتخب الأرجنتين “فريق اللاعب الأسطورى ليونيل ميسى” ، ومع فوز المنتخب المغربى “أسود الأطلس” على فريق بلجيكا ، كذا مع مشاعر الحزن الصادق الجامع ، كلما تعثر منتخب لبلد عربى ، وصادفه سوء الحظ أو عدم التوفيق ، ومع انفجار خزان المشاعر المكبوتة ، بدت كلمة الجمهور العربى من كل الأقطار حاسمة فى مظهرها كما جوهرها ، وكاشفة لحقيقة أننا أمة واحدة من الخليج إلى المحيط ، وإن فصلت أقطارها حواجز الجغرافيا وتصرفات الحكام ، وهو ما بدا طاغيا مع قضية فلسطين وحقوق شعبها ، فقد كانت أكثر الغائبين حضورا فى “مونديال” قطر ، فليس لها منتخب كروى مشارك ، لكنها بدت من أول لحظة مشاعر فى المهرجان الكروى العالمى الفريد ، وكأنها المرشح المختار بدون أدوار تصفيات ، وكأنما صعدت إلى الدور النهائى من أول ضربة ، وفازت بكأس العالم ، وباجتماع المشاعر العربية المتدفقة من حول منصة التتويج الفلسطينى .
وكان من الطبيعى المتوقع جدا عند العاقلين ، أن تنعقد فى شوارع “الدوحة” وجوارها ، قمة عربية شعبية من طراز نادر ، قوامها عشرات آلاف المشجعين القادمين مع منتخباتهم المشاركة ، إضافة لمئات آلاف العرب العاملين فى قطر ، وكانت نقطة الاجتماع الوحيدة على جدول الأعمال ، هى فلسطين وحلمها وهمها وقداسة قضيتها ، ومن هنا ، كان ظهور الأعلام الفلسطينية بكثافة غير مسبوقة ، واعتمار الكل للكوفية الفلسطينية ، وتزيين المعاصم والأيادى بشعارات نصرة فلسطين ، ثم كانت المعركة السلمية الواسعة ، التى وجدت ضالتها فى حضور مفروض لصحفيين ومشجعين ووسائل إعلام “إسرائيلية” ، قد تكون جاءت بدعوات مفتوحة لحضور “المونديال” ، وتساوقا رسميا مع اعتبارات “الفيفا” الدولية ، لكنها فوجئت بما لم تحسب حسابه ، وواجهت الرفض الشعبى العربى الحازم الجازم لأى تطبيع فعلى أو رمزى أو سلوكى مع مستوطنى كيان الاحتلال الإسرائيلى ، فلم يحظ أى مراسل “إسرائيلى” بلقاء أو تجاوب من أى مواطن عربى ، لا من الأقطار التى طبع حكامها مع العدو ، ولا من الأقطار التى ينتظر حكامها اللحاق بقطار التطبيع وخيانة التزامات القضية الفلسطينية.
وهكذا توالت المشاهد التى تخلع القلب فرحا ، وتصدم العدو كمدا ، وانتشرت “فيديوهات” الفخار العربى على وسائط التواصل الاجتماعى ، وقد كانت من أسعد حظوظ من هم مثلى من غير مشجعى كرة القدم ، ومن المشجعين المتحمسين قبلنا ، فقد كانت هى المباريات الأعظم إثارة ، استمات المراسلون “الإسرائيليون” فى البحث عن أى مشجع عربى يقبل الحديث معهم ، وكان الجواب التلقائى واحدا بغير سابق اتفاق ، بل ربما باتفاق ضمنى غلاب ، فما إن يلحظ المشجعون العرب شارة “إسرائيلية” أو “عبرية” على ميكروفون ، حتى يكون العزوف ورفض الحديث ، أو رفع علم فلسطين إغاظة للمراسل “الإسرائيلى” ، أو المسارعة بالمغادرة على طريقة فرار السليم من الأجرب ، أو الهتاف “تحيا فلسطين” باللغة العربية أو بالإنجليزية ، ثم يتصاعد الرفض إلى ذراه مع وقاحة وتبجح المراسلين “الإسرائيليين” ، وإعلانهم الجهير عن هويتهم الصهيونية ، فيكون التجاهل العربى الشعبى هو الرد الفورى ، وإشهار عدم الاعتراف بأى شرعية لوجود هذه “الإسرائيل” ، وتأكيد حقيقة الوجود الفلسطينى دون سواه على الأرض المقدسة المحتلة ، فيحتد صراخ المراسلين “الإسرائيليين” ، ويلوكون أوهامهم ، ومزاعمهم الزاعقة بأن “إسرائيل” موجودة إلى يوم القيامة (!) ، ولا يلقى الصراخ “الإسرائيلى” سوى وابل السخريات من المشجعين العرب ، والإعراض عن مصافحة أو مشافهة أى “إسرائيلى” ، وبصورة حطمت أعصاب المراسلين “الإسرائيليين” ، ودفعت بعضهم إلى التخفى خلف جنسيات أخرى.
كذلك الصحفى “الإسرائيلى” الذى زعم أنه من “الإكوادور” ، وفضحه مشجع مصرى مثقف من “لوجو” قناته التليفزيونية المكتوب بالعبرية ، وعاجله بشعار “تحيا فلسطين” ، ليس عن وهم بل عن حلم ، وثقة مطلقة بنصر الله القادم لعباده الصابرين المجاهدين ، وبأن فلسطين كانت وتكون وستكون ، مهما طالت أزمنة المعاناة والقتل والطرد ، فالفلسطينيون باقون كما بساتين الزعتر وأشجار الزيتون ، وسوف ينتصرون بإذنه تعالى ، وتتحرر فلسطين من احتلال الصهاينة ، تماما كما تحررت بعد احتلال الصليبيين “الفرنجة” لمئات السنين ، ومن هنا بالضبط ، كان اجتماع المشجعين العرب على الاتحاد الجامع فى غناء الأناشيد والأهازيج الفلسطينية ، والفرح المتحمس مع نشيد المشجعين المغاربة بعد فوزهم الكروى المثير على “بلجيكا” الموالية لكيان الاحتلال الإسرائيلى.
جاءت كلمات النشيد بريئة صافية ، تقول مقاطعها المنغمة نطقا “الحبيبة يا فلسطين / آه أين العرب النائمين / آه يازينة البلدان / قاومى ربى يحميك / من ظلم الإخوة الأعداء / واليهود الطامعين فيك / ما نتركك ياغزة / رغم بعدك عنى / يارفح ورام الله / أمتنا مريضة / أمرضوها بالمشاكل وفساد الحكومات / والعربى يعيش فى الويل / مستقبل كله ظلمات / (….) / لا نركع أبدا إلا لرب العالمين / مولانا صاحب الكون / والحرية لفلسطين / إن شاء الله فى القدس الفرحة تكون ” ، بدت كلمات النشيد كالنشيج ، وبدت مؤلفة عفويا وفوريا وجماعيا فى بساطة ظاهرة ، تشكو من الوجع بمرارة ، وتثق بانتصار فلسطين وتحرير القدس الأسيرة ، ومهما كانت الظروف الصعبة والعوائق المرئية المحسوسة .
وبالجملة ، بدا “المونديال” العربى فلسطينى الهوى والهوية ، ومنافسا قويا لمهرجان “المونديال” الكروى الدولى ، وفى تعبير غاية فى التحضر والرقى ، لا يصح اتهامه بعنف ، أو بالعداء للسامية ولا العداء لليهود ، فالعرب فى جلهم “ساميون” حسب الروايات العرقية ، ولا يكره أغلب العرب اليهود كيهود دينا ، وقد عاشوا لمئات السنين فى بلاد وحمى العرب المسلمين والمسيحيين ، ولا يعادى العرب والفلسطينيون سوى المحتلين الغزاة المغتصبين لديارهم.
وأيا ما كانت الدعاوى والأساطير الدينية المزعومة ، فما بين العرب و”الإسرائيليين” الصهاينة ليس نزاعا فى الأديان السماوية، ولا قضية ثأر دينى من أى نوع ، والظاهرة الصهيونية استعمارية إحلالية استيطانية ، وقضية فلسطين هى التحرير الوطنى، وردع العدوان والاغتصاب ، ودحر العنصرية الصهيونية المدمرة للأوطان وجلال الأديان.
ومن هنا ، كانت السخرية واجبة من الاحتجاج الإسرائيلى الرسمى الموجه لدولة قطر ومنظمة “الفيفا” ، والزاعم الشاكى مما أسماه “التمييز العنصرى” ضد الإسرائيليين ، فلم يتعرض مشجع عربى للإسرائيليين بالتحرش البدنى أو اللفظى على أى صورة ، بل بالتجاهل التام ، ومن التجاهل ما قتل.
ثم برفض مصافحة يد الدم الصهيونية ، ورفض التعامل مع المحتلين العنصريين العدوانيين ، ورفض استضافة “الإسرائيليين” فى “تاكسى” أو فى مطعم ، وتأكيد المقاطعة السلمية للعدوان المتوحش حتى ينتهى ، وإظهار حقيقة رفض “التطبيع” عند القواعد الشعبية العربية بأغلبيتها الساحقة ، وهو ما يظهر الوضع “المعلق” لأغلب نظم الحكم العربية ، وانفصالها الكلى عن مشاعر ومواقف شعوب الأمة العربية ، ويكشف السبب الحقيقى لفزع وذعر “الإسرائيليين”بعد “مونديال” فلسطين فى قطر.
فقد استعان ساسة كيان الاحتلال على الحكام العرب بالضغط الأمريكى الداهس ، ودفعوا كثيرا منهم إلى اتفاقات “تطبيع” مع عدو الأمة ، وتصورالإسرائيليون أنهم فازوا فى غزوات التطبيع بالجملة ، وحققوا الفتح المبين ، وأنهم أزالوا جدران المقاطعة بضربة حظ “ترامبى” مع الاتفاقات “الإبراهيمية” بالذات، وخلا لهم وجه شعوب العرب ، يمتزجون بها ، ويتبادلون الصلوات والقبلات والسهرات والفسحات ، وعلى نحو ما أوحت لهم أصوات العبيد والشواذ وحملات الذباب الإلكترونى مدفوع الأجر المريب ، ودفعت بهم لحزم حقائب الذهاب إلى “الدوحة” ، اغتناما لفرصة عناق حار توهموه بين مهرجان كروى و”كرنفالات” سلام دافئ تصوروها.
ثم كانت صدمتهم المهلكة نفسيا ، حين فوجئوا بالحقيقة العربية القارة الصلبة ، وبأن اتفاقاتهم مع الحكام ، لا تعدو أن تكون دخانا مسموما يطير فى الهواء ، وتذروه رياح الشعوب كالهشيم ، وتثبت الحقيقة الكبرى الظاهرة لكل ذى عينين وسمع بصير ، وهى أن “التطبيع” امتداد مباشر للاغتصاب الإسرائيلى ، وعار وإثم لكل من يقترف جريمته ، وأن قضية التحرير الفلسطينى لا تسكن فى الماضى ، ولن تدفن أبدا ، وأن مشاعر ومواقف الأجيال العربية الطالعة مع فلسطين برغم كوارث ونكبات تجريف الوعى ، تماما كما الأجيال الفلسطينية الجديدة المقاومة ببسالة مذهلة ، تعيد النجوم لمداراتها الأصلية ، وتكسب المستقبل لفلسطين ، التى كسبت كأس المشاعر الفياضة فى “مونديال” قطر .