د. قاسم المحبشى يكتب: ذكرياتي مع الأستاذ الدكتور أبو بكر السقاف (١-٢)
إذا ما تساءلنا الآن؛ ماذا بقي لنا من ذلك المفكر العربي، الذي يرقد في صندوقه الصغير في مقبرة الغرباء في عاصمة روسيا الاتحادية منذ أربعة أيام؟!.
ماذا بقي من أستاذ الفلسفة الرائد في جامعة صنعاء، اليمنية في جنوب الجزيرة العربية الذي غادرها مجبرا بعد سقوط الجمهورية عام ٢٠١٥م؟!.
غادرها بعد أن أمضى فيها نصف قرن من حياته استاذا ومفكرا وناقدا وكاتبا مثقفا مدافعا عن الإنسان والحرية، لا يشق له غبارا، وغدا أشهر من نار على علم في عموم اليمن والوطن العربي منذ سبعينيات القرن الماضي، والذي افتتن بأفكاره التنويرية عدد واسع من تلاميذه وقرأوه وأنا منهم.
ماذا بقي لنا من أبوبكر عبدالرحمن السقاف الذي لم يكن يحمل إلا حقيبة وقلم طوال حياته؟!.
لقد حاولت البحث في سيرته الذاتية في الشبكة العنكبوتية فلم أجد غير بعض الشذرات التي لا تشبع ولا تغني من جوع!
فلم تنشر جامعة صنعاء سيرة حياة أحد أبرز مؤسسيها منذ عام ١٩٧٠.
وكتب منصور هائل؛ ” فجر الجمعة 3 أبريل 2015، وصلت إلى موسكو طائرتان روسيتان على متنهما أكثر من 300 مواطنٍ روسي ومن جنسيات أخرى، تم إجلاؤهم من اليمن.. بعدها واصلت الطائرات التابعة لوزارة الطوارئ الروسية عمليات توصيل المواد الإغاثية والطبية إلى صنعاء، وترحيل من تبقى من الدبلوماسيين والرعايا الروس والأجانب إلى موسكو، وكان المفكر أبو بكر السقاف ضمن أولئك “الرعايا”، حيث اضطر إلى مغادرة صنعاء صوب موسكو، ليلوذ برفيقته زهرة ربيع العمر، وشريكة حياته “لينا”، أيقونة الوفاء الروسية التي اعتصمت بحبه كما لا يحدث إلا في روايات القرن الـ19 الرومانسية.
انتظرته طويلًا لتكتنف خريفه الذهبي بعد أن ضاقت “صنعاء” بمفكر عبقري قلما جاد به الزمن على اليمن الطاردة لذلك العقل الجبار الذي تميز بتبصراته العميقة وامتلاكه أدوات الحفر والتحليل والتفكيك والتفسير، ورسمه المبكر لتجاعيد وأخاديد التغريبة اليمنية القصوى والشتات المريع الضارب في أرجاء البلاد والعابر للحدود والقارات” ( ينظر ، منصور هائل، في البدء كان السقاف : بورترية متجدد، صحيفة النداء، ٥ نوفمبر ٢٠٢٢).
ثمة كثيرون يعرفون السقاف أكثر مني، إذ أننى لم أعرفه إلا من خلال كتاباته الصحفية منذ منتصف ثمانينيات القرن الماضي.
كانت مقالاته الفكرية والسياسية هي نقطة الضوء الوحيدة التي تمنح الأمل والسلوى الثقافية في الفضاء العمومي اليمني التواصلي المسكون بالهرجلة والضحالة.
حينما يكتب يثير أمواج عاتية من ردود الأفعال والتساؤلات، ومهما اختلف النقاد في النظر إليه فهو في رأي الجميع نص مدهش يأسر القارئ بفيض خصيب من الإشراقات المبهجة.
إنه النص الذي يدخل القارئ في رحاب وفضاءات مستعرة بالدهشة والفرح والجمال والمعنى.
إنه النص الذي ينحدر من بحر زاخر بالثقافة الإنسانية الراقية، فمنذ الوهلة الأولى تشعر بتلك الروح الحميمة الجامحة التي تلتهب في جسده الرفيع.
وحينما يتكلم أو يكتب تفيض المعاني من الكلمات كفيض العسل من خلايا النحل الناضجة.
كانت مقالاته هي زادنا الروحي في عدن اليسارية المهرجانية التي طغت فيها الأيديولوجيا الضحلة حد الاختناق.
كنا نتداول مقالاته كما يتداول أهل الخليج والمملكة كتب الفلسفة بسرية تامة.
قبل الوحدة المرتجلة كان السقاف هو المفكر الوحيد الذي آخذ الأمر على محمل الجد والمسئولية جنبا إلى جنب الشاعر الحكيم البصير عبدالله البردوني.
وحدهما الذين أدركا الكارثة وحذرا مبكرا من مخاطرها، إذ كتب السقاف سلسلة من المقالات المطولة في صحيفة صوت العمال العدنية في شرح وتوضيح معنى الوحدة اليمنية وشروط وآليات تحقيقها ومخاطر ومآلات سلقها دون تسوية الشروط السياسية والاجتماعية لتمكينها.
لم ينصت اليهما أحد للأسف الشديد في عام ١٩٩٠.
وللحديث بقية.