د. قاسم المحبشى يكتب: ذكرياتي مع الأستاذ الدكتور أبو بكر السقاف (٢-٢) وهل أنت إلا الذي جهلوه؟!
في عام ١٩٩٠ التقيت الدكتور ابوبكر السقاف في عدن لأول مرة. كنا بعد التخرج من الجامعة وفي خضم الأحداث المتسارعة نحو توحيد دولتي جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية في عدن والجمهورية العربية اليمنية في صنعاء نشعر بالقلق والتوجس من المجهول بشأن ما ينبغي أن يكون.
قررنا تأسيس منتدى ابن خلدون للدراسات الفلسفة والاجتماعية في جيريش الزميل عدنان عبده علي رحمة الله تغشاها وكان الزميل عمر عباد هو من اقترح الفكرة .
كنا نجتمع كل خميس في جيريتس أرضي في محطة الهاشمي لمناقشة كتاب جديد أو موضوع فكري يتم التوافق عليه من قبل الأعضاء بحسب برنامج ثقافي معد بدقه بحيث يكلف أحدنا بالتحضير الجيد وعرض الفكرة وعلى الزملاء مناقشة مناقشة فكرية صارمة لا مجاملة فيها ولا تجريح ولا تسويف.
وكانت إدارة المنتدى بالتناوب كل أسبوع يديره أحدنا. وأتذكر أننا استضفنا بأحد الجلسات الأستاذ الدكتور أبوبكر السقاف الذي ألقاء على مسامعنا محاضرة عن أهمية المنتديات الفكرية وكيف كانت المقاهي في العواصم المدنية فضاءات رحيبة لتخصيب الأفكار الفلسفية.
كان لتلك المحاضرة بالغ الأثر في تعزيز مسعانا. وفي أحد المرات استضفنا الأستاذ الدكتور حمود العودي فحدثنا عن كتاباته في الموروث الشعبي. استمر نشاط الجيرش الفلسفي لمدة عام تقريبًا.
ناقشنا فيه الكثير من الموضوعات الفكرية، منها فكرة الوحدة المرتجلة بين الشطرين، انقسمنا إلى فريقين؛ فريق عقلاني يمثل وجهة نظر الدكتور أبو بكر السقاف وفريق رومانسي يتبنى وجهة نظر عمر الجاوي.
منذ ذلك الحين عرفت الأستاذ السقاف فدارت الأيام وتمت الوحدة اليمنية والأزمة والحرب والخراب فتفرقت أيدي سبأ! أكملت دراسة الماجستير في جامعة عدن بإشراف الأستاذ الدكتور أحمد نسيم برقاوي بعنوان (الوجود والماهية عند جان بول ساتر).
كانت اليمن تلك الأيام تعيش لحظة وجودية حدية إذ احتدمت فيها قيم الحرب والخوف والضياع والاغتراب وفقدان المعنى و كانت تلك الجرعة الفكرية الوجودية الملهمة كافية لمواصلة البحث في فلسفة القلق والحرية.
واتذكر أنني عام ١٩٩٢ ذهبت إلى جامعت صنعاء لغرض متابعة تعييني معيدا في كلية الآداب بناءًا على رسالة من رئيس جامعة عدن حينها محمد العمودي إلى رئيس جامعة صنعاء عبدالعزيز المقالح دعكم منها.
في صباح ذلك اليوم ذهبت إلى كلية الجامعة وشاهدت جموع محتشدة بجانب قاعة جمال عبدالناصر معظمهم بالزي اليمني التقليدي وبعضهم يحملون أسلحة نارية. سألت أحدهم ماذا يوجد هنا؟ فأجابني مناظرة فكرية بين الشيخ عبدالمجيد الزنداني والدكتور أبو بكر السقاف.
شكرته وتوجهت مباشرة إلى القاعة. كانت مزدحمة بذوي الرؤوس المعممة ولم الحظ الطلاب. أخذت مكان في الخط الثاني في زاوية قريبة للمنصة التي كانت خالية بعد عشر دقائق من الانتظار الممل في قاعة تعج بالضجيج القبلي والهياج الاحتفالي.
دخل الأستاذ الدكتور أبو بكر السقاف بحقيبة منفردًا لا يرافقه أحد فنهضت لاستقباله وعرفته بنفسي. رحب بي وجلس في حالة من الذهول والدهشة من نوعية الحضور.
بعد ثلاث دقائق اكتظت البوابة العريضة بسيل من المسلحين الرسميين والقبليين برفقة الشيخ الزنداني نهض معظم الذين كان في القاعة مرددين الشعار الأثير (الله أكبر) مع قمقمات غير مفهومة.
شق موكب الزنداني طريقة مباشرة إلى المنصة في مشهد احتفالي غوغائي من التصفيق الحماسي. اجلسوا الشيخ على المقعد الأول في المنصة.
كان مبتسما كعادته ابتسامة الواثق من نفسه وربه. فحضر شخص اخر هو زنداني كان عضوا في هيئة التدريس في الجامعة لم اعد اتذكر اسمه ربما هو (منصور الزنداني) وعلمت أنه كان رئيسا لنقابة هيئة التدريس في الجامعة حينها. أخذ المكرفون وافتتح الجلسة بمقدمة طويلة من القرآن الكريم والأحاديث النبوية والترحيب بالشيخ الجليل وقال بلهجة ساخرة أين الفيلسوف أبو بكر السقاف؟! رد السقاف بصوت خفيض أنا هنا.
قال: تعال إلى المنصة نبدأ المناظر الفكرية! رد السقاف أي مناظرة فكرية في ثكنة عسكرية؟! لن اصعد المنصة قبل أن تختفي تلك المظاهر المسلحة ليس خوفًا منها ولكن احترامًا للمؤسسة الأكاديمية وللفكر ذاته.
اتدرون ماذا كان رد الشيخ الزنداني؟! قال بلكنة ساخرة تفتقد إلى إي خلق فكري. هؤلاء جند الله لا تخاف منهم أصعد يا سقاف! نهض الدكتور أبوبكر بحقيبة المعلقة على كتفه فانصرف بهدوء من القاعة، فضجت بالتصفيق البليد بانتصار الشيخ على الفيلسوف.
انتظرت أنا لأرى ما الذي سوف يحدث بعد إنسحاب الدكتور أبوبكر من القاعة، فكانت محاضرة دعوية تحريضية ضد الفكر والفلسفة والمفكرين الأحرار ردد خلالها الشيخ الكثير من الترهلات والخزعبلات الذي لم ينزل الله بها من سلطان.
في قاعة تعج بتلاميذ الشيخ فقط. وأنا استمع اليه شعرت بحالة من الخوف والقرف والغثيان وأيقنت أن البلاد ذاهبة في ستين داهية.
ناقشت الرسالة بعد أن وضعت الحرب اوزارها وسقوط مدينة الحداثة والتحديث عدن تحت سنابك القوى التقليدية القادمة من صنعاء تحت رأية الفتح والتكفير والغنية. تمت المناقشة في قاعة مغلقة في كلية الآداب بحضور رئيس الجامعة الأستاذ الدكتور علي صالح باصرة رحمة الله عليه.
وتشكلت لجنة المناقشة من الأستاذ الدكتور طيب تيزيني استاذ الفلسفة في جامعة دمشق رئيسا والأستاذ الدكتور أحمد نسيم برقاوي مشرفا والأستاذ الدكتور حامد خليل أستاذ الفلسفة في جامعة دمشق عضوا وعضوية الأستاذ الدكتور علوي عمر مبلغ مناقشا داخليا. في تلك الأيام الحالكة السواد كتب الدكتور أبو بكر السقاف مقالته الشهيرة عن الاستعمار الدخلي وتعرض للاعتداء الهمجي الأول في 10 مايو 1995، لأنه كان يدافع عن الصحفيين الشباب الذين تعرضوا للسجن والتعذيب.
وقال الشيخ عبدالله الأحمر قولته الشهيرة (من كتب لُبج) وهو ممثل للمؤسسة القبلية في الجمهورية الجديدة مع ممثل المؤسسة الدينية الزنداني وممثل السلطة القامعة عفاش ومحسن لأحمر ألدين اجتمعوا في ليلة ليلا من ليالي صنعاء الطويلة على خطف الكاتب المفكر أبو بكر السقاف من منزله بعد منتصف الليل واخذه إلى وادي سحيق بين الجبلين وضربه ضربا مبرحا عقابا عن ما كتبه.
وهكذا واجه استاذ الفلسفة المدني الأعزل من كل سلطة ما عدا سلطة العقل والقلم، كل المؤسسات التاريخية التقليدية المسنودة بكل عناصر القوة والبطش والسلطان التي تشبه الوياثان (الوحش ذي الثلاثة الرؤؤس الخالية من العيون هي أفواه فقط لا تعرف غير الافتراس والبلع لكل ما يقع تحت نظرها) اجتمعت في ليلة ليلا لسحق إنسان واحدا وحيد هو أبو بكر السقاف، الذي مات مغتربا عن الوطن الذي أحبه وبذل كل ما بوسعه من أجلها.
وطنا جديرا باسمه اليمن السعيد الذي كان يحلم به. سقطت اللوياثان المتوحش بعد أن انجب لوياثانا على صورته ومثاله ولكنه أكثر مسخا طائفيا مزيجا من كل اوساخ التاريخ التي قامت الثورة والجمهورية والوحدة لتطهيرها وتجاوزها في مؤسسة جامعة وعادلة لكل المواطنين محكومة بقوة الحق لا حق القوة. ذهبت أنا إلى جامعة بغداد لمواصلة دراستي العليا دكتوراه. ذهبت اليها بمشاعر أهل اليمن الأرق قلوبا والآلين أفئدة ! غير أن العراق التي تشبه اسمها بالعراقة والرسوخ التاريخي غيرت كل شيء فهناك وجدت نفسي وجها لوجه مع التاريخ الذي ينيخ بكلكله الثقيل على عاتق الحضارة البشرية. فتحول السؤال الوجودي عن من هو الإنسان؟ إلى سؤال فلسفي تاريخي عن ما هو التاريخ؟ وكيف يتحرك وإلى أين يسير؟.
وكتبت أطروحتي في نظرية التحدي والاستجابة عند أرنولد توينبي بإشراف الأستاذ الراحل مدني صالح رحمة الله عليه عام ٢٠٠٤م بعدها عدت إلى اليمن واستئنفت تواصلي مع الدكتور أبو بكر السقاف في صنعاء وعدن إذ التقيته في حين ما حضرت مؤتمر العلوم الإنسانية والاجتماعية الأول في صنعاء عام ٢٠٠٨.
لم يحضر المؤتمر فزرت إلى منزله بمساعدة أحمد الزراقة ووجدته في حالة من الخيبة وفقدان الأمل ببقاء الجمهورية إذ كان يرى في حرب اجتياح الجنوب وحرب صعدة بداية السقوط والانهيار حيث كتب حينها: “إن سلطة أو تسلطية العنف والحرب والاحتلال والقمع والاستبداد, أي القوة الفجة في بلاد (اليمن السعيد بجهله) أخذت تحل محل السياسة بوصفها تدبير أمر الشأن العام ومحل السلطة، بعدها حكم الناس برضاهم ومحل قوة الحق والرشد والحكمة والشرعية في حل المشكلات والأزمات التي تواجه البلاد والعباد في الجنوب والشمال ليحل الخراب وتضيع السيادة ويصير الأمر كله مرهون في أيادي خارجية , أقليمية ودولية , وهذا هو الأمر المتوقع من تغليب العنف على السياسة.
والعنف حينما يزيد عن حده ويتسع مداه وتترسخ تجاربه وتتعمق آثاره في البنية الاجتماعية والحياتية للناس”.
وقد نشر مقاله في صحيفة التجمع الوحدوي وتشاركت معه الصفحة الأخيرة باسم مستعار عن الثورة التي عادت إلى نقطة الصفر.
وحينما كنت رئيسا لقسم الفلسفة عام ٢٠١٠ اقترحت اسم الدكتور أبوبكر السقاف مناقشا خارجيا لأطروحة الزميل سامي عطا، رفعنا اسمه وبعد ثلاثة أسابيع جانا الرد من الجامعة بالاعتراض على أسم السقاف مما اضطرنا للاعتذار له واقتراح اسم أخر من جامعة صنعاء.
تجدر الاشارة أن الجامعات اليمنية كتبت عشرات الرسائل والاطاريح الأكاديمية عن فكر الشيخ عبدالله الأحمر والزنداني وعلي عبدالله صالح علما بان لأحد من هولاء الثلاثة (الكبار) استكمل الابتدائية بينما لم يسمح لأحد في كتابة رسالة أو اطروحة في النتاج الفكري للمفكري اليمني الحقيقي أبوبكر السقاف!.
كتبت أول ابحاثي للترقية الأكاديمية عن فلسفة التاريخ عند بن خلدون واخترته محكما علميا خارجيا أرسلته إليه في البريد وحينما قدم إلى عدن تواصل معي الصديق عمر عباد وأخبرني أن الأستاذ موجود في فندق العامر بكريتر، ذهبنا إليه واستقبالنا بحفاوة الحكيم المثقل بهموم العالم.
سلمني الملف وقال جيد جدا حاول أن تعمق قرأتك في فلسفة التاريخ النقدية. أخذنا عمر بسيارته في جولة سياحية حول عدن حتى جولد مور وبعدها عدن للمقيل عند هشام باشراحيل بمؤسسة الأيام.
وفي عام ٢٠١٢ تواصل معي الدكتور أحمد الصعدي وأخبرني بإن الدكتور أبوبكر السقاف رشحني مناقشا خارجيا لرسالة طالبته في الماجستير أفراح علي الصرح إذا لم تخني الذاكرة.
كانت الرسالة عن الأخلاق والسياسية عند ميكافيللي.
ذهبت مع الزميل الدكتور سامي عطا وسكنا بدار الضيافة وفي اليوم التالي تمت المناقشة واتذكر أن الدكتور السقاف كان رئيس اللجنة ومنحني فرصة كافية لمناقشة الطالبة.
الطالبة الطيبة حاولت أن تجعل من علي عبدالله صالح أمير ميكافيلي الموحد لايطاليا فكان لي معها نقاش عميق في صميم المعنى. منحني الدكتور رئيس الجلسة فرصة كافية لمناقشتها لمدة ساعة ونصف.
وكان المناقش الدخلي هو الدكتور ، الدكتور حميد علي اسكندر. أستاذ الفلسفة في جامعة صنعاء. فكان ما كان مما لست إذكره فظن خيرا ولا تسأل عن الخبر!.
أتخيل بأن أبو بكر السقاف يرافقني كطيف يحيط بي لكن من المؤلم والمحزن أن يدرك المرء ، بعد فوات الأوان أنه ليس بإمكانه أن ينهل من النبع مرتين! فحين يغيض النبع ـ مرة وإلى الأبد ـ دون أن نغرف منه ؛ لا تتكشف الأسئلة الحارقة عن غياب سهولة الارتواء من النبع ؛ بل عن غياب الجدوى التي تضمر فقراً وذهولا عن الانتباه لعابر هائل مر بنا ( كلما اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة ) لقد اتسعت الرؤية لدية ربما حاصرته تلك التأويلات، في هذه العوالم الخرساء ، وزمان النكوص ( لكم تخذل المرء سيماؤه ، ولكم يجهل الناس ما يعرفونه، وهل أنت إلا الذي جهلوه”.