د. قاسم المحبشى يكتب: بقايا تجربة وتغذية راجعة
في مشواري الأكاديمي درّست طلبة وطلبات في أقسام أكاديمية مختلفة منها: الفلسفة وعلم الاجتماع والخدمة الاجتماعية وعلم النفس والفنون الجميلة والتربية واللغة العربية؛ في مختلف المستويات من سنة أولى جامعة وحتى الدكتوراه.
درّست مساقات كثيرة منها: الفكر الشرقي القديم والفلسفة اليونانية وتاريخ الفلسفة والفلسفة الحديثة والمعاصر وفلسفة التاريخ وفلسفة الجمال ومناهج البحث في العلوم الاجتماعية وفلسفة الدين وقضايا فلسفية معاصرة والتحليل النفسي وعلم النفس العام وعلم نفس النمو وأصول التربية، ونظرية الخدمة الاجتماعية والإدارة في الخدمة الاجتماعية وغيرها لم أعد اتذكرها.
وعبر هذه التجربة والخبرة تعلمت أشياء كثيرة منها: أن الطلاب اذكياء ولا يمكن مغالطتهم بالكلام الفاضي حتى وأن صمتوا ومررا المحاضرة.
وأن التحضير الجيد للمحاضرة هو ما يحفظ للأستاذ عرق جبينه وشرف مهنته.
وأن اسلوب المحاضرة التلقينية من الملازم والكتب المقررة تقليدي وسقيم وسخيف.
وأن أسلوب الحوار والنقاش والعصف الذهني هو الأكثر نجاعة في توصيل المعرفة.
كما اعتمدت مداخل منهجية متكاملة في المحاضرات منها: المدخل الوصفي والمدخل السيكولوجي والمدخل الحواري والمدخل الحيوي هذا الأخير الذي يجعل من كل كلام في أي فرع من العلوم متسق مع الحاجات الحيوية التي نعيشها في حاضرنا المباشر.
فتدريس العلوم بوصفها علوم الأخيرين هو الداء العضال في مؤسساتنا الأكاديمية العربية، إذ كنت اردد على طلابي “أن ما تعلمته يكون عديم الفائدة ما لم تضع كتبك وتحرق مذكرات محاضراتك، وتنسى ما حفظته عن ظهر قلب من أجل الامتحان”.
ونحن نعرف بالتجربة أن جميع المعارف التي تتراكم خلال سنوات الدراسة تضيع إذا لم تسمح لنا الفرصة لا استعمالها… أن كل المؤلفات التي كتبت على رياضة السباحة لا تفيد المرء قيراطا واحدا إذا أراد الدخول إلى البحر قبل أن يتدرب على العوم.
وهذا يعني أن نظام التلقين والحفظ والطاعة والامتثال التي تقوم عليها نظمنا التربوية والتعليمية العربية التقليدية لا يمكن لها أن تساعد في خلق أجيال متطورة ومتجاوزة للأجيال السابقة.
ومما تعلمته من طلابي وطالباتي أن أحد أسباب كون عمليات إعادة هيكلة التفكير مؤلمة هو أن الاطر الفكرية ليست قضايا معرفية بحته، وإنما فيها جوانب شخصية وعاطفية كثيرة بما في ذلك من قيم ومعتقدات ورموز .
وتعمل القيم الشخصية كشبكة تعرض من خلال الخبرات في عالم الممارسة” وعلى المربي المعلم أن يعرف مسبقا بأن لكل طالب نظرته الضمنية عن العالم وطريقة عمله وأن تلك النظرة التي لم تتعرض للاختبار، والموجودة في اللاوعي كل إنسان، هي التي تمكنا من صياغة وتفسير وفهم عالمنا.
وهي تشكل نظام معتقداتنا ومنظورنا الشخصي وهي بذلك تصبح العدسات أو أجهزة التقنية البصرية لخبراتنا اليومية إذ تملي علينا ما نراه، وكيف نفسره وهذا يعني أن نتعلم طرق جديدة في التفكير والتربية لابد أن يتضمن تحديا للنظريات المختزنة داخليا لدى الطلاب وتعليمهم منظورات جديدة لتفسير الأمور، هذه العملية لا يمكن أن تمر بسلام بل سوف تكون مشحونة بدرجة عالية من الانفعال والمجابهة والسخونة والتحدي.
فكان ما كان مما لست أذكره.. فظن خيرا ولا تسأل عن الخبر.