د. ناجح إبراهيم يكتب: التدين المغشوش.. وفقه المقاصد

كتب د. ناجح إبراهيم مقالاً بعنوان”التدين المغشوش .. وفقه المقاصد”وتم نشره في جريدة الشروق السبت وفى التالى نص المقال:

(1)

اشتد المرض على امرأة من بني إسرائيل يوم السبت فلم تجد بدا ً من الذهاب للمسيح عيسى عليه السلام ليعالجها حتى برأت من مرضها.
.. وبدلا ً من أن يفرح الكهنة بشفائها إذا بهم يغضبون غضبا ً شديدا ً وعلى رأسهم رئيس الكهنة الذي واجه المسيح بقوله : “كيف تبرئ يوم السبت ؟” وهو اليوم المقدس .

فإذا بالمسيح يلقنه والأجيال كلها درسا ً قاسيا ً في فقه المقاصد والاهتمام بالجوهر قبل المظهر.. والإنسان قبل الرسوم والأشكال قائلا ً:
“يا مرائي أفئن سقط حمارك في بئر يوم السبت أنقذته وأبرأته وحين يمرض إنسان تتركه في علته إلي يوم الأحد ” .

(2)

قرأ الشاب الملتحي عنوان كتاب العقاد “عبقرية محمد ” فألقاه غاضبا ً وصائحا ً: أين الصلاة على الرسول.. كيف لم يكتب على غلاف الكتاب عبقرية محمد صلى الله عليه وسلم؟! .. العقاد هذا الذي تفخرون به لا يحسن احترام مقام النبوة كما ينبغي .

تعجب جليسه من فعله وقوله وقصر فهمه وهشاشة عقله وسطحية تدينه قائلا ًله : “إن كل كلمة في هذا الكتاب العظيم تجعل كل من يقرأه يحب الرسول.. ويعشقه ويطبق تعاليمه وأخلاقه وآدابه.. هل نسيت أن هذا الكتاب من أوائل ما كتب في العصر الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم كل كلمة وفقرة في هذا الكتاب تشي وتدل على حب العقاد العظيم لهذا النبي الكريم.

ثم قال لصديقه: أنت لا تعرف فن كتابة العناوين.. إنه عنوان كتاب وليس موضوع إنشاء.

(3)

قدم بعض العراقيين على المدينة يسألون عبد الله بن عمر عن حكم دم البرغوث ؟.. وهل ينجس الثوب أم لا ؟ .. فقال لهم متهكما ً من تدينهم المغشوش وساخرا ً من فهمهم المغلوط لحقائق الدين والحياة: “تقتلون الحسين ابن بنت رسول الله بدم بارد وتسألون عن حكم دم البرغوث؟! .

وكأنه يقول لهم: اتركوا البرغوث ودمه “في حاله”.. ولا بأس عليكم من قتله ودمائه ولا حرج عليكم في كل ما يتعلق به حياة أو موتا ً.. واسألوا عن مصيبتكم الكبرى والعظمى وهي تواطئكم على قتل الحسين ابن بنت رسول الله.. وخداعكم له بالبيعات الكاذبة وعندما جد الجد تركتموه يصارع الجيوش وحيدا ً.

(4)

خفق عمر بن الخطاب رجلا ً بالدرة لأنه وجد عدة تمرات فأخذ ينادي في الطريق: من صاحب هذه التمرات؟!!.. فكانت درة عمر بن الخطاب هي العلاج لتدينه المغشوش وهو يزجره بقوله: لا يا صاحب التقوى الكاذبة .

وفعل ذلك مع رجل وجد درهما بالشارع فنادى: درهم من هذا ؟!.. وكأنه يقول لهؤلاء: إن هذه التمرات لا تستحق كل هذا الصياح.. وهذا الدرهم لا يستحق هذا النداء
مثل هذه المشاهد جعلتني أثق أن أزمة أمتنا الأزلية هي “التدين المغشوش”.
لقد أراد المسيح أن يلقن الفريسيين واليهود والرومان درسا ًلا ينسوه عن التدين الحقيقي الذي يهتم بالجوهر قبل المظهر وبالثوابت قبل المتغيرات.. وبالفرائض قبل السنن.. وترك الكبائر قبل الصغائر.

أما ابن عمر فأراد أن يعالج التدين المغشوش أو الكاذب في نفوس كل الأجيال منطلقا ًمن هذا الدرس الذي أعطاه للعراقيين الذين يسألون عن دم البعوض بعد أن قتلوا الحسين رضي الله عنه.. وهم اليوم الذين يضرب بعضهم نفسه اليوم ويجرح جسده كلما حلت ذكرى الحسين.. وهذا كله من التدين المغشوش أيضا ً.

اقرأ ايضا للكاتب:

فهؤلاء الذين يضربون أنفسهم اليوم ويجرحون أبدانهم في ذكرى استشهاد الحسين لم يكونوا يومها على قيد الحياة أو ولدوا بعد ولا شأن لهم بالمسألة من قريب أو بعيد ولم يكونوا طرفا ً فيها.. فلماذا يحملوا أنفسهم ذنبا ً لم يرتكبوه وجرما ً لم يفعلوه ؟!
.. ويحملوا في الوقت نفسه كراهية وعدوانا ً لأهل السنة من جيرانهم وبني وطنهم ويحملونهم مسؤولية قتل الحسين رغم أنهم كانوا جميعا ً وقتها نسيا ً منسيا.
.. ويكرهون أهل السنة من بني دينهم أو وطنهم ناسين أن أهل السنة قد يحبون الحسين وآله وكل الصحابة أكثر منهم .

ولكنه التدين المغشوش الذي جر الويلات تلو الويلات على هذه الأمة المنكوبة بعقول أبنائها وسوء تصرفهم.

إنني اعتقد جازما ً أن أزمة المسلمين الحقيقية هي أن التدين في أمتنا كثير.. ولكن أغلبه من نوعية وعينة “التدين المغشوش” الذي لا يسمن ولا يغني من جوع.
.. فكل صراعاتنا ونزاعاتنا التي يظن الجميع أنها على الدين أو الوطن هي في حقيقتها على الدنيا والمناصب..
ولكن الجميع يسبغ عليها نكهة التدين أو الوطنية.. ويحولها من حروب سياسية مصلحية إلي حروب دينية وطنية .

وإذا كانت داعش والقاعدة وأنصار بيت المقدس والميليشيات الشيعية التي تكفر السنة وتفجرهم هي نماذج فجة من التدين المغشوش.. فإن هناك درجات من التدين المغشوش في كل شريحة من شرائح المسلمين لا تقل خطرا ً عن هذه المجموعات والجماعات.

فهل تشفى الأمة من مرضها العضال “التدين المغشوش” أم يتوطن المرض في جسدها .. فتصبح أثرا ً بعد عين ؟!!.

زر الذهاب إلى الأعلى