د. قاسم المحبشي يكتب: لتحيا اللغة العربية.. يسقط سيبويه “كاتب وكتاب”
ما هي اللغة ؟ وكيف ظهرت وتطورت؟ وما علاقة اللغة بالتاريخ والحياة والناس؟ وكيف تبقى اللغات وتدوم وتزدهر؟ وما علاقة اللغة بالهوية؟ ولماذا لم تعد لغتنا العربية ديناميكية كما بدأت لغة حياة وفعل وانفعال لتعبر عن الوجود الحقيقي للناس ؟ كما هو معلوم أن اللغة أي لغة حية في عالم الإنسان المتكلم هي لغة الوجود، كما أن السحب هي سحب السماء بحسب هيدجر.
وإذا أدركنا أن اللغة هي الوجود الذي يتكلم ويفكر ويعلن عن وجوده من خلالنا وبناء فان التفكير يحمل إلى اللغة في نطقها كلمة الكينونة اللامنطوقة فهل مازالت لغتنا المحكية والمكتوبة والمفكر بها تعبر عن حقيقة وجودنا وبيئتنا وسلوكنا وحياتنا الحاضرة المباشرة، أم أن الكلمات انفصلت عن الأشياء والدوال انفصلت عن الدلالات وأصبحت أشبه بالطرابيش المعلقة بالهواء بلا رؤوس .
البارحة في صالون علمانيون تحدث المفكر المصري شريف الشوباشي عن كتابه ( لتحيا اللغة العربية .. ويسقط سيبويه) كتاب صادم من عنوانه وصاحبه اراد أن يلقي بحجر في مياه البركة الآسنة.
جذبني العنوان فذهبت للاستماع إلى صاحبه شريف الشوباشي كاتب وصحفي وإعلامي مصري وُلد بالقاهرة في 10 يناير عام 1946، وأنهى دراسته الثانوية بإحدى المدارس الفرنسية عام 1963، ثم التحق بكلية الآداب في جامعة القاهرة حيث درس بقسم اللغة الفرنسية وتخرج منها عام 1967.
والده هو المحامي والكاتب والشاعر محمد مفيد الشوباشي. يعرض الكتاب مسألة صعوبة اللغة العربية ويعالجها معالجة جديدة أثارت ضجة كبيرة.
صدرت الطبعة الأولى والثانية من الكتاب عام 2004 عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، وصدرت الطبعة الثالثة عن دار نشر مدبولي الصغير. للأسف لم اطلع على الكتاب وربما كانت هذه المرة الأولى الذي سمعته عنه وعن صاحبه.
فماذا قال عن الكتاب الذي لم نراه على الطاولة لا مع صاحبه ولا مع من قدمته؟ هو عرض الفكرة بشكل عام قائلا؛ اللغة العربية الفصحى لغة القرآن الكريم جمعت ودونت في عصر التدوين في أوج لحظة ازدهار الحضارة العربية الإسلامية، وتم تقعيدها نحويا على يد عمرو بن عثمان بن قنبر الحارثي بالولاء، يُكنى أبو بشر، الملقب سيبويه: إمام النحاة، وأول من بسّط علم النحو. عاش (٧٦٠- ٧٩٦م) وكتاب سيبويه هو أول كتاب جمعت فيه قواعد الصرف والنحو، وقد تميّز بكثرة المصطلحات النحويّة والصرفيّة التي درجت على ألسنة الناس حتى يومنا هذا.
الاستاذ شريف الشوباشي دخل مدخلا منطقيا، وهو يمهد لمشروعية كتابه إذ قال لقد كان ابن سينا صاحب كتاب الشفاء في الطب يعد أهم أطباء عصره فهل يجوز اعتماد كتابه معيارا للطب الحديث ؟ وكذلك هي اللغة العربية جاءت نشاءتها في سياقها التاريخ لتشبع حاجة أهل زمانها ومن الذي يتكلمها اليوم بصيغتها المدونة في كتاب سيبويه؟ إذ يرى أن تحجر اللغة العربية في قواعدها النحوية السيباوية جعلها لغة كتابة ديوانية وليست لغة حياة متجددة إذ أن معظم الشعوب العربية اليوم لا تتكلم اللغة العربية الفصحى بل تشظت إلى لهجات محلية متنوعة بتنوع البيئات والثقافات المصرية، والعراقية والشامية واليمنية والمغاربية والخليجية وغيرها وأضاف أن اللغات العالمية اليوم ومنها؛ الانجليزية والفرنسية والاسبانية والالمانية، لم تكون موجودة قبل اربعمائة عاما إذ خرجت من اعطاف اللغة الاتينية الكلاسيكية، بينما تعود نشأت اللغة العربية إلى القرن الرابع الميلادي تقريبا ولكنها ظلت على حالها لم يمسها التطور والتغير والتبديل والتجديد والتعديل في سياق الحياة الاجتماعية المتجددة باستمرار. وهذا ما جعلها تعيش حاله من الانفصام اللغوي والتاريخي بين الكتابة والكلام، إذ يضطر الناس المتحدثين باللهجات العامية إلى الكتابة باللغة العربية بصعوبة بالغة وقلما يتقنوها. ومما قاله أن الكلمة في اللغة العربية لا يتحدد معناها الا في تشكيلها نحويا.
كانت ندوة مثيرة بمثابة عصف ذهني بالنسبة لي لطالما وقد فكرت في العلاقة بين اللغة والتفكير وقد تسألت كيف يمكن تجديد اللغة العربية بمعزل عن السياق التاريخي الحضاري الذي يحيط بها؟ إذ اعتقد أن مسالة تطور اللغة مثلها العلم والثقافة ليست مسألة لغوية فنية بل تتعين في سياقها التاريخي العام حيث تزدهر الحضارة بوصفها سياسية وتشريعا وأخلاقًا وهي قوة التاريخ التنظيمية والنظام قبل الكلام وفي البدء كان الفعل وليس الكلمة.تزدهر الثقافة بوصفها علما وفنا وادبا وهي قوة التاريخ الإبداعية وتزدهر المدينة بوصفها زراعة وصناعة وعمارة وتعدين وتدجين وهي قوة التاريخ المادية. نعم اللغة العربية تعيش أزمة اليوم ولكن ازمتها ليست نابعة من ذاتها بل من خارجها وكما هو معلوم أن سلطة الكلمات وقوتها لا تأتي من داخلها بل من قوة ومكانة المتكلمين بها. وقد سنحت لي الفرصة للتداخل والتعقيب واليكم خلاصة وجة نظري في ضوء ما علمته وفهمته من المحاضرة وقبلها
اللغة العربية هي اللغة الوحيد المعربة بمعنى أن أواخر الكلمات تتحرك فيها حسب موقع الكلمة في السياق والجملة إذ الكلمة في العربية تبدو راقصة مفعمة بالحياة والتوقد والفعل والفاعلية بعكس كثير من اللغات الأحرى.
العربية هي اللغة الوحيدة التي ترفع فاعلها وهذه هو منطق الحياة النامية والصيرورة التاريخية والحضارية للشعوب الحية. أن يكون الفاعل مرفوعا فهذا هو منطق الفعل الحضاري الإنساني كقولنا الأمة التي تصنع دواءها، أو الأمة التي تصنع كساءها بينما الذي ينتظر حتى يقع عليه الفعل هو مفعول به منصوب والنصب في اللغة العربية هو عدم الحركة أو السكون وله معنيين النصب بالضمة بمعنى النصب التذكارية القديمة أو الأشياء المحنطة والنصب بالفتح هو التعب بمعنى العجز عن الفعل والبقاء في موضع المفعول به من فاعل أخر وتلك الخلاصة البالغة الأهمية هي التي اثارت اهتمامي وجعلتني أسمعت اليه بانتباه شديد.
والسؤال هنا هو إذ كانت بها اللغة العربية تتميز بهذه الخاصية الوجودية في بنيتها الداخليه فلماذا فقدت بعدها الحضاري وديناميتها الثقافية في مواكبة التاريخ والحياة؟ . إن المتأمل لواقع حياتنا الثقافية العربية اليومية سوف يلاحظ بغير عناء ذلك الانفصال العقيم بين الدال والمدلول بين الكلمات والأشياء بين اللغة والوجود، فالكلمة لم تعد تعني المعنى الذي كانت تجسده ذات يوم، حينما بدأت لحماً ودما حياًً كما بدأت العبارات أيضاً (لحماً حياً) الحيوان والأعضاء والجسد والطبيعة والعلاقات والآلهة انبثقت من الواقع الحي لحياة الإنسان، ولم تكن هذه الرموز إلا تمثيلاً مباشراً صادقاً وحياً للأشياء التي تدل عليها.
إذ أن كثيراً من الكلمات العربية ارتبطت بالحيوان والبيئة التي عاش فيها العربي في زمن ميلادها فللكلمات تاريخ كما للبشر تاريخ. إن كلمة “المتن” على سبيل المثال، بدأت بمعنى “ظهر الحيوان” بينما قد تعني الآن “أصول اللغة ومفرداتها” أو متن الكتاب، أي محتواه.. وكلمة “الابتكار” مشتقة من البكر أول مولود الولادة أي حفظ لنوع، وبالبكارة عزوبة المرأة والباكر أول النهار والابتكار الإبداع والاختراع.وكلمة “الحب” حينما ينطق بها تعني وجود رابطة حميمة بين كائنين وتعني الألفة والاتحاد والعيش معاً. وأنا أحبك كما يقول هيدجر ليس مجرد تعبير عن ذاتي..
بل هو الوجود يعلن ذاته ويتجاوزها إلى الآخر إنها تعني أن الفرد الموجود يتجاوز انغلاقه طلباً للآخر ويؤسس الحب في الخارج خارج الذات المنعزلة وأنا أحبك هي شمولية الوجود الذي لا يعي نفسه إلا شاملاً إنها الجزئي ظاهرياً والكلي جوهرياً.
هذا معناه أن الكلمة ليست تعبيراً عن ذاتها، بل هي حاملاً لمحمول، هي صوت الجسد، هي رمز لشيء موجود، ولكنها ليست الشيء ذاته أبداً بل كما يقول موريس بلانشو، أن الكلمة في اللغات الأصيلة ليست تعبيراً عن شيء بل هي غياب هذا الشيء.
إن الكلمة تخفي الأشياء وتفرض علينا إحساساً بغياب شامل بل بغيابها هي ذاتها، وإذا أمعنا النظر في مملكة الرموز هذه أي اللغة سنكتشف أشياء مثيرة للدهشة بل أن فيها من السحر والإثارة ما يأسر اللب ويلهب الوجدان، فما معنى الكلمات التي نقولها ونعيدها كل لحظة، ما أصل الأسماء وما معناها، من أين جاءت هذه الرموز والإشارات التي نستدل بها عن الأشياء وهل مازالت تعبر عنها بالفعل أم لا؟ أسئلة وقلق كبير ومثير بدأ منذ عقود قليلة يستعر في فضاء الفكر والثقافة الأوربية المعاصرة حول اللغة وأهميتها.
إذ تنبه عدد كبير من الفلاسفة والمفكرون المعاصرون إلى ما تنطوي عليه هذه البنية الثقافية الشاملة من عناصر وأنساق ودلالات لم تكشف بعد رغم أهميتها الحاسمة وفائدتها العميمة لبناء الإنسان.
إذ ظهرت في السنوات الأخيرة فلسفات كاملة وضعت اللغة في صلب اهتمامها منها البنيوية، والأنتروبولوجيا الثقافية، النجوسكية اللغوية في هذا السياق، تم بحث الملابسات العميقة للتقابل بين الثقافة الشفاهية والكتابية اذ قام علماء الإنسان وعلماء الاجتماع وعلماء النفس وعلماء اللغة بأبحاث ميدانية من مجتمعات الشفاهية الثقافة وخرجوا بنتائج مذهلة وعلى درجة كبيرة من الأهمية حول نمط العلاقة بين الثقافة الشفاهية والكتابية وخصائص كل منهما.
ولعله من نافل البيان أن اللغة هي ظاهرة شفاهية في الأصل فحيثما توجد جماعة بشرية تكون لها لغتها وفي كل الأحوال تكون هذه اللغة أساساً لغة محكية مسموعة في عالم الصوت.
ويرى العالم اللغوي (أدمتسن) “بأن ليس هناك من بين 3 آلاف لغة نتكلم بها اليوم سوى ما يقرب من 78 لغة فقط لها أدب مكتوب” وتوسع الكتابة من إمكانيات اللغة بصورة تكاد تفوق القياس تقريباً وتعيد بناء الفكر والكتابة تعطي اللغة قوة تند عن تلك التي تكون لأي لغة شفاهية خالصة.
ويلاحظ المفكر الأمريكي “أولتر أونج” في كتابه إلهام “الشفاهية والكتابية” لا نكاد نعثر في عالم اليوم على ثقافة شفاهية لا تكون بشكل ما على وعي بالمركب الثقافي الشاسع الذي لا سبيل إلى بلوغه أدباً من دون الكتابة، إن هذا الوعي هو بمثابة عذاب نفسي لأولئك الذين تأصلوا في الشفاهية الأولية، أولئك الذين يرغبون في الكتابية بوجدان مضطرب ولكنهم يعلمون تماماً أن الانتقال إلى عالم الكتابية المثير، يعني كذلك أن يطرحوا ورائهم الكثير مما هو مثير وأثير في علمهم الثقافي الشفاهي السالف، إننا مضطرون إلى أن نموت لنبقى أحياء.
فما هي الديناميات النفسية للثقافة الشفاهية يا ترى؟ في غياب الكتابة لا يكون للكلمات في ذاتها حضور بصري، بل مجرد أصوات.
نستطيع أن نستعيدها مراراً ونتذكرها كما هي عليه.هكذا إذن يشكل الصوت المسموع المنطوق جوهر ومحور الثقافة الشفاهية، لكن الصوت كحاسة إنسانية يحدث في الزمن مثله مثل كل الإحساسات الأخرى، غير أنه يتميز بعلاقة خاصة بالزمن وتميزه عن غيره من الإحساسات الإنسانية الأخرى مثل البصر، اللمس، الشم.. الخ.
ذلك لأن الصوت لا يوجد إلا عندما يكون في طريقه إلى انعدام الوجود، فليس ثمة طريقة لإيقاف الصوت وتثبيته فيمكنك إيقاف آلة تصوير متحركة وتثبيت الصورة على الشاشة ولكن إذا أوقفت الصوت فلن يكون لديك شيء سوى الصمت فحسب، فالصوت يقاوم مقاومة كاملة محاولة التثبيت، فالبصر يمكن أن يسجل الحركة ولكنه أيضاً يمكن أن يسجل السكون، بل أنه في الواقع يفضل السكون عن الحركة فلكي نفحص شيئاً عن قرب ببصرنا يستحسن أن نمسك به ساكناً.
لكن الصوت وحده هو الذي لا نستطيع العثور عليه إلا في حالات الحركة أي لحظة ميلاده المباشر الذي ينعدم ولا يترك أثراً مميزاً كما هو الحال في الثقافة الكتابية اذ تشكل الكلمات المكتوبة بقايا وآثار منقوشة أو مخطوطة في نصوص وعلامات ورموز تقاوم الزمن ونستطيع أن نقرأها أو نراها أو نلمسها في أي وقت ومكان على هذا النحو تعلي الثقافة الشفاهية من القدرة على التحكم في أنماط التعبير وفي العمليات لفكرية ذاتها، فالمرء الشفاهي لا يمكنه من تذكر إلا عبارات وكلمات محدودة ومسموعة ومكررة ومن ثم فإن أنماط التفكير نفسها تضيق هنا لكي تكون حافزة للتذكر الدائم.
وكلما زاد الفكر المنمط شفاهياً تعقيداً زاد اعتماده على العبارات الجاهزة المستخدمة بمهارة والقانون نفسه في هذه الثقافات مكنون في أقوال معتمدة على الصيغ في أمثال وعبارات لا تكون مجرد زينة شفاهية مضافة إلى التشريع بل تشكل هي نفسها القانون الفعلي ولا توجد ثقافة خارج الصيغ والعبارات الجاهزة والمتناقلة لأن الصيغة تساعد الذاكرة وتقويها.ولهذا السبب تزدهر في الثقافات الشفاهية أنماط ثقافية محددة، مثل الشعر والحكم والأمثال والحكايات والأساطير. ومن سمات الثقافة الشفاهية يذكر أونج:
* عطف الجمل بدلاً من تداخلها، اذ تكثر حروف العطف بشكل ملحوظ.
* الأسلوب التجميعي في مقابل التحليل.
* الأسلوب الإطنابي أو الغزير.
* الأسلوب المحافظ والتقليدي.
* القرب من عالم الحياة وردود الأفعال المباشرة، وعدم التمييز بين الكلمات والأشياء.
* لهجة المخاصمة، وغياب الحياد الموضوعي.
ولما كانت النظرة العامة للتقابل بين الشفاهية والكتابية تنطلق من نزعة مركزية أوروبية كتابية تهتم في تقسيم الثقافات والمجتمعات إلى شفاهية وكتابية، الأولى شاعرية حسية حركية لفظية روحية تجميعية بلاغية سحرية في حين أن الأخرى كتابية بصرية تحليلية عقلية علمية نصية تقدمية تجريديه ابتكاريه ، الأولى صوتية تكرارية تقليدية ذاتية محافظة شخصانية انفعالية صيغية خطابية سكونية ثابتة لا تعرف التجديد والإبداع والابتكار ، والأخرى مؤسسية قاموسية موضوعية متطورة باستمرار ونقدية متجددة (إدوارسعيد،1981) لما كانت تلك النظرة الاستشراقية الغربية الكتابية تنظر إلى الشعر والشاعرية نظرة تحقير وازدراء، إذ تعد اكتشافات النظرية الشفاهية هذا النمط من فنون القول” بمثابة نتائج مزعجة للثقافة الغربية التي كانت تنظر إلى هوموريس على أنه جزء من ثقافة يونانية قديمة ظل الغربيون ينظرون إليها بتقدير وافتخار .
ذلك أن هذه النتائج تدل على أن اليونان الهومرية كانت تحبذ سلوكاً شعرياً وفكرياً اعتقادنا دائماً أنه عيب “( أونج،1994: 79) ولعل الإحساس بهذا العيب هو الذي دفع أفلاطون – كما يرى هافلوك – “إلى طرد الشعراء من جمهوريته الفاضلة حينما وجد نفسه في عالم جديد ذي ملكةٍ عقليةٍ كتابية أصبحت فيه الصيغ أو الرواسم ” الكليشيهات ” المفضلة لدى جمهور الشعراء التقليديين ، قديمة و ضارة “.
( أونج،1994: 80).وربما لهذا السبب لا تزال ثقافتنا العربية الإسلامية الشفاهية تثير دهشة الدارسين الغربيين واهتمامهم حينما تجعل من موضوع ازدرائهم _ أي الشعر والشاعرية_ موضوعاً للافتخار والتميز ، فما نزال – بعد قرابة ألفين وست مائة سنة من طرد أفلاطون للشعراء ورفضه لذلك النمط من التعبير الشعري البدائي التراكمي التجميعي اللفظي الشفاهي – نردد مقولة ” الشعر ديوان العرب ” وكأنه سرد عقلي لواقع الحياة واستخدام نفعي للغة.
وبعد ألف وثلاث مائة عام من معرفتنا للكتابة لا يزال الشعر والأدب الشفاهي هو كل رأسمالنا الثقافي في عصر التقنية العالية عصر ما بعد الكتابة ، فليس هناك أمة من الأمم الحية جعلت من الإعجاز اللغوي والبلاغة الخطابية مصدراً دائماً لافتخارها مثل الأمة العربية التي تمركزت حول البيان العربي واللسان العربي ولم تبارحه قيد أنملة (عبدالعزيز،2005: 45) والشعر هو لغة الوجود الأولى ، وهو راسخ الجذور، في البنية الشفاهية لمختلف الثقافات الإنسانية، وعندما وصف فيلسوف التاريخ الايطالي باتيستافيكو “أقدم مرحلة من التطور الإنساني بأنها عصر الشعر كان قد سبق وصفه هذا ما قاله ( جسبرسن ) من أنها عصر الغناء ، غير أن الصحيح هو عصر اختلط فيه الرقص والغناء والشعر والنثر والأسطورة والاحتفالية والسحر والعبادة”( ممفورد، 1980: 45).
وحينما نقول إن الشعر هو شكل التعبير الجمالي والنفعي الأول في الثقافات الإنسانية الشفاهية ، فنحن نعني أنه كان النموذج الإرشادي (البارادايم) الثقافي المهيمن في الفضاء التواصلي العام لكل فنون القول والتفكير والأداء والتعبير في المجتمعات البدائية، كما أن العلم هو البارادايم المهيمن في الثقافة المعاصرة , وقد أضفت اللغة الشعرية روحها الشاعرية على كل أنماط التعبيرالبدائية المختلفة , الأسطورية واللاهوتية والفنية والفلسفية , فكل النصوص المكتشفة في الحضارات القديمة مثل ( ملحمة جلجامش وأسطورة الخلق والتكوّن والآداب الفرعونية والفيداء الهندية والكونفوشستية الصينية وملحمتا الإلياذة والأوديسة اليونانيتان والتوراة والإنجيل.. الخ) جميعها صيغت بحسب نموذج الثقافة الشفاهية وهي التي تعطي للتشكيل الموسيقي للغة الاهتمام الكبير الذي يستغرق سمع المتلقي بما يحعل القول متساميا عن القول المعتاد (عبد الكريم،2014: 33 ).
وفي هذا السياق كتب بول زومتور قائلاً” لا سبيل إلى الشك في أن التاريخ قد عرف يوماً ثقافة بلا شعر شعبي” ( زومتور،1999: 57).
والتفكير ليس فطريا بالانسان كما قد رسخ بالأذهان -بسبب الخلط الشائع بين العقل والتفكير انه أشبه بالسير على قدمين بالنسبة للقرود ، بما ينطوي عليه من عسر ومشقة بالغة، وهذا ما جعله في الثقافة العربية الاسلامية أمر يستعاذ منه والناس في كل مكان قلما يميلون اليه ، ولا يكون ميلهم الا كرها لا اختيارا ، في أوقات المحن والازمات الكبرى ، يضطرون اليه في مواجهة التحديات العسيرة ، اما في أزمنة اليسر والرخاء والدعة ، فالناس يعيشون حياتهم ويحمدون ربهم على راحة البال ورضا الضمير وبهذا المعنى نفهم صيغة المؤرخ الانجليزي ارنولد توينبي ، في التحدي والاستجابة ، التي أكد فيها ، ان الظروف الصعبة لا السهلة هي السر في نشوء الحضارات وتعاقبها الدوري فمتى فكر العرب او متى سوف يفكرون ؟! وجنبكم الله التفكير.
ختاما: الدماغ عضو من اعضاء جسم الكائن الحي مثله مثل سائر اعضاء الجسد وكل عضو من اعضاء الجسم له وظيفة فسيولوجية ولكن الاعضاء لا تنمو وتعمل من تلقاء ذاتها بل عبر الممارسة والاستخدام الدائم لوظائفها والعضو الذي لا يستخدم ينقرض بحسب داروين ووظيفة الدماغ الفسيولوجية عند كل الفقاريات هي الادارك عبر نوافذ الحواس الأساسية التي تمدها بالمعطيات الادراكية اثناء ممارسها لحياتها الطبيعية في العالم وكل ما يميز الإنسان عن سائر الكائنات هو اللغة إذ يتواصل البشر فيما بينهم مستخدمين حزمة من اللغات المتعددة التي تتباين إلى حد كبير فيما تنقله من معلومات، ولطالما تساءل العلماء فيما إذا كانت اللغات المختلفة تعكس قدرات معرفية مختلفة، في السنوات الماضية برزت دلائل مبنية على التجربة والاختبار تشير إلى أن تأثير اللغة الأم فعلا قوية في الطريقة التي يفكر فيها الإنسان في شتى أمور العالم بما في ذلك المكان والزمن، وهناك تلميحات تشير إليها النتائج البحثية الأخيرة أيضاً مفادها أن اللغة جزء لا يتجزأ من العديد من سمات الفكر التي لم يدركها العلماء من قبل.