“فوزية” و”سعدية” نساء في مهام صعبة.. قصص كفاح لـ”عظيمات مصر”
كتب- إسلام فليفل
هُن أمهات مصر اللاتي تغزلت فيهن أقلام الروائيين والكتاب وصُناع الأفلام، حيث تتحدث عن الأم المصرية الأصيلة التي لا تزال تصنع التاريخ لأبناء جيل يحمل أمل أمة بأكملها، رحلة طويلة من العمل والنضال والانتصار سمة حياتهن، تركض كل منهن وراء ذلك الوحش المسمى بلقمة العيش.
تبدأ الرحلة مع بزوغ الفجر، في رحم تلك الأرض التي تحمل الخير بريف مصر، وسط حبات الندى التي تتصارع لتتشبث بجلبابهن وسط غيطان الخضار والفاكهة، وأزواج وأبناء تروي الأرض بعرقهم بعدد بذور تخضر وتنضج معها أحلام بالستر والصحة.
هنا ينادي عليهن بندر المحروسة بأسواقه المكتظة بالمارة، والمليئة بالضجيج والمحفوفة بالمخاطر، لم تخشي أية منهن من دخول تلك المفرمة والحلبة التي يحكمها قانون لقمة العيش، تسعي كل منهن إلى كسب الرزق في الصباح الباكر، مستغلات حاجة أسواق المحروسة لخبرات الريف، لم يكن لغريب على أم خلقت لصناعة وكتابة تاريخ أن تردد بكل بساطة “ربك كريم وبيرزق، بس المهم نسعى”، فهي تتناسى قسوة ذلك الزمن اللعين، والحزن والمعاناة حين تكالبوا عليها وأخذوا نصيبا من وجهها حين ترى المعاناة ترسم ملامحها، فموت زوجها حين كانت على وشك أن تكمل عامها العشرين، قطف زهرة جمالها، فأصبحت كالعجوز، فقط تكفيك تلك الابتسامة التي تجبرك على الوقوف لها احتراما واجلالا.
بائعة البامية
غاب عن شعراء المحروسة الكثير، حين تغزلت قصائدهم في بائعة الورد، وفاتهم تلك الابتسامة الساحرة المرسومة على وجه “سعدية” التي قاربت على العقد السادس من عمرها، والتي تقطع عشرات الكيلومترات يوميا من قريتها بمحافظة المنوفية قاصدة منطقة شبرا مصر بوسط القاهرة، تسعي لكسب الرزق في الصباح الباكر، تبدأ يومها برحلة معاناة مع المواصلات، فجسدها لم يعد يساعدها، بعدما نبشه المرض.
تقول سعدية “الشغل مش عيب، العيب أن أمد أيدي لحد”، وعن سبب اختيارها لمنطقة شبرا مصر، أوضحت: “المنوفية كلها فلاحين ومفيش بيع ولا شراء زى هنا، الناس هنا بيحبوا الخير اللي بيطلع من الريف، هنا أقدر أبيع واكسب أحسن من القعدة، وربنا كريم وبيرزق، هنعمل أيه؟”.
حقها فهي سيدة عجوز ولكن قلبها لا زال يفيض حنانا وتفاؤلا، حين تقول “أنا كمان بساعد أبني عشان يقدر يصرف على زوجته وأولاده، هو بيشتغل ميكانيكي بس العيشة بقت غالية، والمدارس بتاخد فلوس والعيال مصاريفهم بتكتر، واختتمت حديثها: ربنا يسترها علينا اليومين اللي عايشينهم مش عايزين أكثر من كدا.
بائعة الفول النابت
بعيونها التي تجوب المكان من حولها، تلفت الانتباه بذلك الخمار الذي ترتديه السيدة “فوزية”، 45 عاما، تجلس على أحد الأرصفة بجوار محل ملابس حيث تفترش الأرض بورق كارتون وأمامها وعاء كبير به الفول النابت، أجبرتها ظروف المعيشة على قطع تلك المسافة من البدرشين إلى بين السرايات بالدقي، ومن ثم الجلوس في أسواق وسط المدينة، فوزية التي تعيش وحيدة بعد وفاة زوجها، لديها ابن متزوج مثل أغلب الشباب يعاني من ضيق العيش، جاءت تبحث عن رزقها بالرغم من معاناتها مع مرض الروماتيزم، فتقول “لو معملتش كده هموت من الجوع، وابني لا يستطيع أن يصرف عليا أنا وزوجته وأولاده، فهو على باب الله، عامل باليومية، وعن أحلاما رفعت يدها لمجيب السائلين “نفسي أزور النبي وأشرب من مياه زمزم”.
هي لا تقل عن سابقتها، جيهان 40عاما، ينطبق عليها المثل الشعبي” اقلب القدرة على فومها تطلع البنت لأمها”، حين قالت “أنا آتى من الفيوم إلى الحي السادس بمدينة السادس من أكتوبر مع والدتي، وأنا في السابعة من عمري لبيع البيض والجبن، ولكن عندما تعبت والدتي وأصبحت لا تقدر على الخروج من البيت، ورثت منها تلك المعاناة بهذه المهنة.
تعتبر جيهان العائل الوحيد لأسرتها المكونة من الأب والأم وثلاث أبناء، فهي مطلقة هاجر طليقها إلى ليبيا ولا يصلها منه إلا 500جنيهًا شهريا، بالإضافة إلى معاش والدها 400جنيهًا، وتضيف قائلة، آتي إلى أكتوبر يومين في الإسبوع ومع ذلك ربك بيرزق، وأكتوبر هنا أحسن من غيرها بكتير، عندي زبائن من زمان ولو روحت مكان تاني بتسرق، وعن سبب سرقتها قالت “أنا لما بروح مكان تاني بيكون جديد عليا، معرفش فيه حد ممكن واحدة من اللي بتبيع زيي تضايقني عشان مجيش أبيع جنبها وساعات الناس بترفض أن أبيع في المكان دا”.
لم تكن مثل غيرها، جمال فتاة الريف يميزها، ملابسها غير المتكلفة تزيدها بهجة، أم محمود، 33سنة، التي تساند زوجها الذي يعمل فلاحا يستأجره أصحاب الأراضي لزراعتها، تأتي من العياط صباح الأحد من كل أسبوع لتبيع العيش والجبن القديم، تقول: “زوجي فلاح على باب الله يوم شغل وعشرة لأ، وأنا لازم أساعده عشان نقدر نعيش، وعند سؤالها عن العائد من كل هذا العناء قالت، الغلاء اللي إحنا فيه هو السبب، بس لازم أساعد زوجي وأولادي، وأدينا عايشين على قدنا هنعمل أيه؟، بس مستورة والحمد لله”.
كل منهن رضيت بحالها وحمدت ربها، أحلامهن وأمنياتهن هي الصحة والستر ومنهن من تطلب زيارة الرسول، حقا هن أمهات تصنعن تاريخ لجيل يحمل أمل أمة تريد الحياة.