طارق السيد متولى يكتب «يوميات زومبى» (19): أم إسماعيل

اليوم أعود للعمل الحقيقة إشتقت للمكتب والزملاء.

وأنا استعد لركوب السيارة أمام المنزل نادت عليّ الست أم إسماعيل فى الدور الأرضى وهى تقف فى شباك شقتها على الشارع، من يراها لأول وهلة يعتقد أنها شبح من أشباح الماضى.

تخطى عمرها المائة عام وفقدت تقريبا بصرها بفعل الشيخوخة، وإنكمش جلد وجهها على تضاريس الجمجمة التى برزت، وسألتنى أم إسماعيل: الساعة كام دلوقتى يا ابنى؟!

قلت لها الساعة السابعة صباحا يا أمى.

قالت: الصبح ؟!!!.. هو احنا دلوقتى الصبح مش بالليل .

هى لا تعرف الليل من النهار، ولا تنام إلا قليلا، وكثيرا ما كانت تستيقظ بعد منتصف الليل وتشغل الراديو وتوقظ جميع الجيران من حولها، وتنادى على جارتها من الشباك على اعتبار أنها فى الصباح، فهى تعيش فى عالمها الخاص بعد أن توفى زوجها عم على السمسار وبلغت من العمر أرذله كما يقولون.

ابنها اسماعيل يعيش بعيدا عنها، يأتى لزيارتها كل فترة يحضر لها بعض الأطعمة وبمجرد أن يقدم لها الطعام وترفضه يصيح فى وجهها ويثور ثورة عارمة عليها ويهدد بحرق نفسه وهى صامتة لا تتكلم ولا تعرف سبب ثورته فقد كان يشرب المسكرات احيانا ويفقد صوابه.

فشل عدة مرات فى الزواج ويعتقد أنها هى سبب فشله ويلقى باللوم عليها دائما والغريب أنه بعد الثورة العارمة يتحول إلى حمل وديع ويقبل يدها ويربت على كتفها ويحدثها بلطف وكأنه شخصان يأتيان لزيارتها فى وقت واحد.

أم إسماعيل تعيش معنا بجسدها الهزيل فقط لكن عقلها ومشاعرها فى عالم آخر.

أذكر أنه قبل أن تفقد جزء كبير من ذاكرتها كانت تروى لنا أنها عاصرت الباشوات والبكوات ودخلت قصورهم فقد كانت تعمل “مخدماتية” تمدهم بالخادمات. الآن بعد هذا العمر المديد تطل على الدنيا والعالم فقط من خلال شباك شقتها فى الحى القديم .

ذهبت إلى المكتب قابلنى الزملاء بدفء وحرارة وقابلنى الأستاذ منصف مدير المكتب بجدية وقال لى اليوم لدينا حفل عشاء لمجموعة من الخبراء الأجانب فى السابعة مساءا، ودعانى للحضور لأترجم الحديث بينه وبينهم، وأساعده فى تحضير الكلمة التى سيلقيها فى الحفل باللغة الأنجليزية.

فى موعد العشاء جلسنا فى قاعة فى إحدى الفنادق وجلس مجموعة من الخبراء الأجانب من أمريكا حول الموائد المعدة للعشاء بجميع أدوات الطعام الفاخرة وكان معى الزميلين جلال وسالم، وقبل العشاء وقف الأستاذ منصف يلقى كلمته وأنا بجانبه، وحاول شرح وتقديم المنتجع السياحى الذى تقوم الشركة ببناءه وكل عدة دقائق يسألنى خلسة عن كلمات إنجليزية يترجم بها عبارات وكلمات عربية، حيث أنه لا يجيد الإنجليزية بطلاقة، ومع ذلك يصر على الحديث بها والنتيجة أن الأجانب لم يفهموا معظم حديثه ولا المغزى منه.. لكنهم فى النهاية صفقوا له.

بعد انتهاء الكلمة كان أستاذ منصف يتصبب عرقا ويبدو عليه التوتر ،لاحظ أن سالم وجلال يبدو على وجهيهما شماتة مبطنة خلف ابتسامة زائفة فقال لهم موبخا “إيه يا حمار أنت وهو، انتوا جايين تأكلوا وبس مش تقوموا ترحبوا بالضيوف الأجانب” بعدها خرج مغادرا يريد أن يذهب إلى دورة المياه خارج القاعة وكانت القاعة لها عدة أبواب كلها مغلقة ماعدا باب واحد ندخل ونخرج منه وقد رصت الموائد أمام الأبواب الأخرى.

خرج الأستاذ منصف من القاعة يبحث عن دورة المياه خارج القاعة وهو لا يزال فى حالة توتر وعدم تركيز فوجد باب على بعد خطوات اعتقد أنه باب دورة المياه فاستعد لخلع ملابسه وفتح الباب المغلق فوجد نفسه داخل القاعة مرة أخرى أمام الأجانب الذين كانوا قد بدأوا فى تناول الطعام فأصابتهم الدهشة من المنظر وهو يدخل عليهم ممسكا بحزام البنطلون، وقد فكه.

انفجرت القاعة بالضحك ونحن أيضا، خرج الأستاذ منصف ،وبعد أن عاد وأثناء تناولنا للعشاء توعدنا بالعقاب فى الغد وهو يضحك.

إنتهى الحفل وخرجنا لنغادر الفندق لاحظت أن جلال زميلنا العجيب قد زاد وزنه وإنتفخ چاكت البدلة التى يرتديها وعرفت أنه أخذ بعض الملاعق والشوك الفضة ومنفضة للسجائر من على مائدة الطعام بالفندق وأخفاها فى جيوب الچاكت، إستحلها وأعتبرها هدايا أهداها لنفسه بنفسه، وبهذه المناسبة فقد لا حظت أن بعض الزومبى عندما يذهبون إلى الفنادق بصفة خاصة يعتبرون أن الأدوات فى أماكن الطعام أو غرف الفندق ملكا خالصا لهم وهدايا فتجد من يأخذ الفوط والبشاكير وغيرها.

وأغرب حادث رأيته كان لأحد النزلاء الزومبى الذى وضع أباجورة صغيرة كانت بغرفته بالفندق فى حقيبة السفر وهو يهم بمغادرة الفندق لكنهم أستوقفوه واخرجوها من حقيبته فبرر ذلك بأنه يعتبرها ” سوڤنيير ” (هدية للذكرى) من الفندق.

ونكمل فى يوم اخر من يوميات زومبى فإلى اللقاء.

اقرأ أيضا للكاتب:

زر الذهاب إلى الأعلى