د. قاسم المحبشي يكتب: حينما يكون للتاريخ قيمة ومعنى
( التاريخ الذي لا يُدون كالأحلام التي لا تُفسر)
للتاريخ في أم الدنيا قيمة ومعنى ولا شيء يضيع أو يختفي هنا.
حيث ما وليت وجهك في أرض الكنانة تجد الصروح والنقوش والآثار والكنوز التاريخية محاطة بالرعاية والصيانة الرسمية والشعبية فضلا عن الفخر والاعتزاز الثقافي الواعي العمومي الذي لا تخطئه عين الزائر العابر.
ورغم أن الحاضر والمستقبل هو الملمح الذي يمكن مشاهدته والإحساس به عند عموم الناس في مصر إذ لا تخلو أن محادثة بين مصريين من مختلف الشرائح الاجتماعية من ترديد جملة (النهار ذا) تسمها من سائق التاكس ومن الأستاذ الجامعي ومن المرشد السياحي ومن طلاب المدارس والجامعات حتى في محادثتهم العادية (نحن النهار ذا)
وفي تحيات الصباح (نهارك أبيض) وازيك؟ وايش عامل؟ وغيرها من العبارات التي تعني من وجهة نظر انثروبولوجية الحس المفعم بالزمن الحاضر والتطلع إلى المستقبل بروح ايجابية قل نظيرها.
وهذا يبطل قول الفيلسوف الفرنسي بول فاليري في أن (التاريخ هو أخطر العقاقير التي اخترعتها كيمياء العقل البشري وخطورته تكمن في أنه يقيد الشعوب عن الحركة ويسكرها بالماضي التي لا تود أن تغادره).
للتاريخ في مصر معنى أخر تماما، إنه يعني الاستمرارية في إستئناف المسيرة الحضارية وإعادة ابداعها وتجاوزها بما يضيف اليها وينميها ويجودها بالمزيد من المنجزات الجديرة بالقيمة والاهمية والاعتبار.
انطلاقا من الإدراك العميق بإن خير تكريم للأسلاف لا يكمن في الاحتفاظ وتقديس تراب قبورهم بل في جعل الشعلة التي أوقدوها ذات يوما متوجهة باستمرار.
ذلك هو ما لاحظته أمس وأنا في اتحول شارع المعز لدين الله الفاطمي أو الشارع الأعظم أو قصبة القاهرة أو قصبة القاهرة الكبرى هو شارع يمثل قلب مدينة القاهرة القديمة والذي تم تطويره لكي يكون متحفاً مفتوحاً للعمارة والآثار الإسلامية.
مع نشأة مدينة القاهرة خلال عهد الدولة الفاطمية في مصر نشأ شارع المعز فكان تخطيط المدينة يخترقه شارع رئيس يمتد من باب زويلة جنوباً وحتى باب الفتوح شمالاً في موازاة الخليج، وأطلق عليه الشارع الأعظم وفي مرحلة لاحقة قصبة القاهرة، قسم المدينة قسمين شبه متساويين وكان المركز السياسي والروحي للمدينة.
مع التحول الذي عرفته القاهرة أوائل القرن السابع الهجري/الثالث عشر الميلادي خلال عهد الدولة المملوكية مع بدء هجوم التتر على المشرق والعراق نزح كثير من المشارقة إلى مصر، فعمرت الأماكن خارج أسوار القاهرة، وأحاطت الأحياء الناشئة بسور القاهرة الفاطمي، وزخر الشارع الأعظم بسلسلة من المنشآت الدينية والتعليمية والطبية والتجارية والسكنية، بحيث أصبح القسم الأكبر من الآثار الإسلامية لمصر مركزاً داخل حدود القاهرة المملوكية، وتجمعت الأنشطة الاقتصادية في هذا العصر حول الشارع الأعظم وعلى امتداده خارج باب زويلة تجاه الصليبة والقلعة، وامتدت قصبة القاهرة خارج أسوارها الفاطمية من أول الحسينية شمالاً خارج باب الفتوح وحتى المشهد النفيسي جنوباً.
ربما يعود الفضل في هذه الجولة السياحية للصديق العزيز الأديب المثقف إبراهيم موسى النحاس الذي طالما حدثني عن المتحف المفتوح وآثاره الخالدة في قلب القاهرة حيث كان الروائي العالمي نجيب محفوظ يكتب روايته.
أمس فقط سنحت لي الفرصة لزيارة شارع المعز بصحبة الزميل العزيز الدكتور صالح علي الصلاحي والقاصة الواعدة الاستاذة سماح الشيمي ومرشدنا السياحي الخبير إبراهيم موسى النحاس.
من الثانية عشر صباحا حتى العاشرة ليلا زرنا أهم المعالم الأثرية الإسلامية إذ يضم الشارع مجموعة من أروع آثار مدينة القاهرة يصل عددها إلى 29 أثراً تعكس إنطباعاً كاملاً عن مصر الإسلامية فى الفترة من القرن العاشر حتى القرن التاسع عشر الميلادي، والتي تبدأ من العصر الفاطمي (297- 567هـ/ 969- 1171م) حتى عصر أسرة محمد علي (1220- 1372هـ/ 1805- 1953م)، وتتنوع الأثار الموجودة مابين مباني دينية وسكنية وتجارية ودفاعية.
ومن محاسن الصدف أن التقيت بالصديق العزيز الدكتور ماجد سلطان زيد في باب الفتوح بعد افتراق طويل وزرنا وكالة التاجر الحضرمي بازرعة التي تحتوي على غرف بعدد أيام السنة ٣٥٦ يوما ويقال بعدد ما كان يمتلكه من زوجات وجواري.
كانت زيارة ممتعة ومفيدة ومدهشة وكان ختامها مسك في مركز الربع الثقافي؛ حفلة فنية، اسمتعت فيها إلى نخبة من فناني وفنانات مصر أحدهم بالزي اليمني وسعدت بسماع الفنان المصري الجميل وهو يغني كلماتي لأمي الحبيبة.
وتحسرت على تاريخنا الذي ضاع في مهب الحروب والعصبيات وغياب الرعاية والاهتمام الرسمي والشعبي.
وهكذا هو الحال مع التاريخ؛ شعوبًا يدمرها التاريخ وشعوبًا يبنيها التاريخ ويسعدها ومصر مثل اعلى لتلك الاخيرة التي استطاعت توظيف التاريخ توظيفا حضاريا وثقافيا وسياحيا واقتصاديا بصورة مثيرة للدهشة والاحترام.
هنا في أم الدنيا تعاشقت وتمازجت وتعايشت نصف حضارات التاريخ الإنساني الفرعونية واليونانية والرمانية والكنعانية والساسانية والإسلامية والأوربية بما لها وما عليها وربما غيرها ولا شيء من تاريخ تلك الحضارات تم تدميره؛ أنها تاريخ مصر التي دفعت ثمنه من عمرها وأرضها ونهرها وكفاح شعبها ولا شيء يضيع من تاريخ مصر السار والمؤلم.
في مصر وحدها التاريخ لا يكتبه المنتصرون فقط بل تكتبه الأحداث والأفعال والآثار والأحجار والنقوش والذاكرة الجمعية.