إسلام كمال يكتب: مصر إلى أين؟!
قاعدة العالم قرية صغيرة، تتردد منذ أوائل القرن الماضي، بإسقاطات مختلفة تماما عن تصوراتنا حولها الآن، بل وإرهاصاتها منذ بداية التقدم التكنولوچى إلى زمن التريندات.. عبارة أصبحت مملة لدى البعض، لكنها أساسية في كل تفكير، ومؤثرة على الأرض، وبالتبعية في البعد الاستراتيجي، بالذات بعد سقوط بغداد، والذي كان بمثابة بداية نظام عالمى جديد، تتعقد وجوهه مع الوقت، وبالذات مع حقبة ضربات الربيع العربي، والذي كانت بدايته من الربيع الأوكراني البرتقالى، لو تتذكرون!
بالتالى، فإن غزو أوكرانيا وسقوط كييف، هو أمر مؤثر على كل نقطة في العالم، مهما كان بعدها، ليس التأثير المباشر، الذي يرصده الجميع اقتصاديا الآن، في غلاء الحبوب والوقود والمعادن وارتفاع التضخم، لكون هذه المنطقة من صوامع ومحاجر ومصادر طاقة العالم الأساسية، بل أيضا للإسقاطات الاستراتيجية المتشابكة، التى تعيدنا للحرب الباردة القديمة بمعانى وصور جديدة، بل وتصل بنا لحرب عالمية بالفعل، لا يهم ذكر رقمها الآن، أن كانت ثالثة أو خامسة، المهم الآن إننا على أبوابها، إن لم ندخل أجوائها بالفعل.
لايزال البعض من العامة والقيادات، في الداخل والخارج مصدمون من هذه التطورات، لكن من المهم جدا أن نتخلص من حالة الصدمة ونتحرك بشكل مبادر، لتكون مكاسبنا أكثر من خسائر في هذه الأزمة.
بحساب المكسب والخسارة، والبعد المباشر وغير المباشر للأزمة، فمصر بعيدة عن المشهد بشكل ما، وبالتالى لا تتبلور لها أية ردود فعل مؤثرة، باستثناء موقف روتينى من وزارة الخارجية، ومتابعة اعتيادية من وزارة الهجرة، وكلمتين تقليديتين من رئيس الوزراء بخلاف موقف واضح من قناة السويس حول الحيادية المعتادة من القناة في مثل هذه الظروف، وهو موقف مهم جدا رغم الضغوط المتوقعة بمنع السفن الروسية.. لكن مصر الكبيرة إقليميا وعالميا ننتظر منها الكثير، خاصة إن جيراننا الصغار والكبار، يتحركون لمربعات أبعد منا، ووصلنا لعرض وساطات بين روسيا وأوكرانيا، بخلاف المساعدات الإنسانية، بل هناك دول مالت ضد روسيا لصالح أوكرانيا لإرضاء أمريكا، ودول وأذرعة دعمت روسيا!
أقصد بحديثي هذا حتى كتابة هذه السطور، إسرائيل وقطر وتركيا وإيران وسوريا وحتى السعودية، وأخيرا الامارات الممثلة العربية في مجلس الأمن، والتى امتنعت عن التصويت على قرار يدين الغزو الروسى، رغم المحاولات الأمريكية، حتى من خلال الإسرائيليين الذين يدعمون صهيونيا أوكرانيا ويظهرون بعض الحيدة عسكريا، لكن القصة أبعد وأعقد من ذلك وفق العقلية المخابراتية والمدرسة الدبلوماسية المصرية العتيقة، والتى تطورت بشكل كبير خلال السنوات الأخيرة، ففكرة مسافة السكة تبلورت في عدة ملفات، لم تتوقف عند الخليج فقط، والموقف المصري الداعم للصينيين في أزمتهم الأوليمبية مع الأمريكان، كانت نقلة كبيرة، والبعض يشبه ما تفعله روسيا مع أوكرانيا بما فعلته مصر مع غرب ليبيا لتأمين نفسها من التهديدات، وآخرون يترقبوه مع إثيوبيا.
لكنى طامح في مكاسب حقيقية، فلماذا لا يتواجد الهلال الأحمر المصري في الأزمة، من خلال مستشفي ميدانى على الحدود بين أوكرانيا وبولندا أو رومانيا، ولماذا لا تجرى الدولة المصرية اتصالات تشاورية مع الرئيسين أو وزيرى الخارجية في بلدى الأزمة ووزراء أمريكا والاتحاد الأوربي والصين، نعرض خلالها الوساطة وندعو للتهدئة ونعرض المساعدات الإنسانية، ونطمئن القيادات على رعاياهم لدينا، ونبرز موقفنا المهم جدا باستضافة السياح الروس والأوكران على حساب الدولة المصرية لحين تهدئة الأمور، وهذا أمر رائع لا يتم بروزته عالميا، بشكل مثير للتساؤلات!!!
بالطبع، كنا علمنا الرئيس السيسى، وكل قادة مصر السابقين، أن مصر ليست دولة تابعة لأى معسكر، ولذا يجب أن يكون لنا موقفنا الوسطى في كل أزمة، خاصة أن كل التداعيات حول العالم ستطالنا، مهما كان هذا البعد، ولا أقصد هنا البعد الاقتصادى فقط، كما أشرت، بل كل الأبعاد، ولا أمل من تكرار الإشارة إلى الدعم المصري للصينيين ضد الأمريكان، والذي كان نموذجا مهما، نتطلع ليكون قاعدتنا في التعامل مع كل الأزمات.
فالفلاح الأوكراني الذي يمدنا بالقمح سنويا له حق علينا، والصانع الروسي الذي يمدنا بالمقاتلات له حق علينا أيضا، ولو برز هذا الخطاب سنكون أمة أصيلة تقدر من يساعدها، وتقف معه وقت الشدة، حتى لو كانت وقفة محايدة في المنتصف بين الجانبين، ولا نستطيع فعل غير ذلك، وهذا بالفعل يجعلنا نتطلع لإعادة إحياء معسكر عدم الانحياز بشكل عصري جديد، خاصة أن الهند رغم تحديد هويتها وعلاقتها الأمريكية والإسرائيلية الساخنة والتوتر التاريخى بينها وبين الصين إلا إنها لا تحيد عن الحيدة رغم الضغوط، ووضح ذلك في إنها امتنعت عن التصويت ضد القرار الأممى بإدانة الغزو، ولتكون لبنة جديدة لتحالف قديم، في عصر تجدد زمن الأحلاف، فبداية الأزمة أساسا تمدد حلف الناتو ليطال الأمن الروسي من أوكرانيا.
مع بعض المبادرات والرؤية غير الاعتيادية، أتصور إن مصر، من الممكن جدا أن تخرج رابحة من هذه الأزمة بعدة أشكال، رغم كل الضربات الاقتصادية الموجعة التى نعاينها منذ بداية الحرب، ومع الوضع في الاعتبار إن روسيا ليست بديلة عن أمريكا، ولا أمريكا بديلة عن روسيا، فالعلاقات المهمة بين القطبين يجب أن تكون عقيدتنا، ولا ننسي طبعا القطب الثالث، وإن كان البعض يعتبر الصين وروسيا قطبا واحدا، وبالمناسبة علينا جميعا تدرس الموقف الصينى من الأزمة، لأن عليه الكثير من علامات الاستفهام، مع ترقب اشتعال غير بعيد بين الصين وتايون، لو طالت الحرب بالذات مع مناوشاتها النووية.
ولمن يتصور أن روسيا ستنسي من وقف معها، ومن تجاهلها، ومن عادها، فأدعوه لمتابعة الردود الروسية الفورية على أى موقف إسرائيلى لا يرضيها رغم أن تل أبيب لا تدين بالكامل ولا تدعم بالكامل، وموقفها مائع مع الجانبين، فساعة تدين، وساعة تسكت، وساعة تعرض الوساطة، وساعة تركز على مساعدة اليهود والإسرائيليين.
لكن موسكو لم تنتظر وعاقبتها برفض الاحتلال الإسرائيلي للجولان مجددا، وعدم الاعتراف بالقدس عاصمة لها، إلا أن التنسيق مستمر بينهما في سوريا حتى الآن.
لذا علينا أن نعى الدرس، والذي منه متابعة التكنولوجيات العسكرية الجديدة ما بين غزو برى وجوى وسيبرانى، خاصة أن البعد النووى ليس بعيدا عن الصورة بالمرة، والأعقد هو التركيز على سلاح القوميات، وبعد الحديث عن تحييد الجيش الأوكرانى، والبروباجندا الإعلامية المؤيدة والمضادة، والتراجع الكبير لدور السوشيال ميديا في الأحداث، وتسييس العقوبات الاقتصادية في محاولة للدفع لإنقلاب داخلى على بوتين، فهذه الأزمة بها العديد من الدروس المعقدة، من الضرورى الوقوف أمامها كثير.