بيان

أصدر مركز الفكر الاستراتيجي للدراسات

 

في الرابع والعشرين من فبراير/شباط 2022 شنت روسيا هجوماً عسكرياً على أوكرانيا، بدأت الحرب بعد حشد عسكري طويل، أعقبه اعتراف روسيا ب‍جمهورية دونيتسك الشعبية، واقتحام لمنطقة دونباس في شرق أوكرانيا. ولم يتوقف الهجوم الروسي على الرغم من التنديدات الدولية والعقوبات الاقتصادية المعلن عنها.

تسارع وتيرة الأحداث وشدتها، بالإضافة إلى التباينات التي طغت على مواقف الأطراف الدولية، خلقت جملة من التساؤلات المتعلقة بالانعكاسات التي قد تطرأ على النظام الدولي؟

يبحث تقدير الموقف في الانعكاسات السياسية والاقتصادية على الأطراف المشتركة في الحرب، كما يبحث في المآلات التي يمكن أن تشكل خاتمة الحرب، أيجري احتواؤها من خلال آلية العقوبات الاقتصادية، أو من خلال الدعم العسكري المحدود للقوات الأوكرانية؟ أم أنها ستستمر وتخلق تأثيراتها على مستوى دولي؟

الانعكاسات والمواقف الدولية

أظهرت الحرب الروسية في أوكرانيا وتباين المواقف الدولية حيالها حجم الهشاشة الداخلية التي تعتور النظام الدولي الحالي، إذ من خلال النظر في ردود الأفعال المؤيدة والمعارضة للموقف الروسي المتشدد حيال أمنه القومي يمكن تلخيص هذه الانعكاسات السياسية والاقتصادية بالملاحظات التالية:

تعزيز تراجع الهيمنة الأمريكية والنظام آحادي القطب

قدمت الاستخبارات الأمريكية معلومات تؤكد نية روسيا الهجوم على أوكرانيا، وذلك بعد أن نشرت روسيا حوالي 200 ألف جندي على الحدود الأوكرانية، بالإضافة إلى إحكام موسكو السيطرة على أغلب المجال الجوي الأوكراني، وفرضها حصاراً على السواحل الأوكرانية في البحر الأسود. لم تحاول الولايات المتحدة الأمريكية التعامل مع هذا التهديد على نحو جدي لا عسكرياً ولا دبلوماسياً، بل صرحت المتحدثة باسم البيت الأبيض، جين بساكي، قبل الهجوم الروسي العسكري بيوم عن عدم نية أمريكا الدخول في حرب للدفاع عن أوكرانيا. كما لم تحاول استيعاب مخاوف روسيا حول توسع الناتو شرقاً، بل أسهمت في تأزيم الوضع بإهمالها للمخاوف الروسية، ولم تحاول تحييد دور أوكرانيا لتحتوي الأزمة في وقت سابق.

الضبابية التي صاحبت الموقف الأمريكي سيكون لها انعكاس بالغ الأهمية في الجانب الأمني والسياسي على مستوى دولي من عدة جوانب:

أولاً: الضبابية التي تعاملت بها الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها في الغرب خلال بداية الهجوم الروسي العسكري تعكس اختلاف حسابات الدول في تقدير مصالحها الذاتية، وهو أمر يضعف من مفهوم التكامل السياسي والأمني الذي شكل عصب النظام الدولي أحادي القطبية، والذي تأسس عقب سقوط الاتحاد السوفييتي في تسعينيات القرن المنصرم وحتى الوقت الراهن.

ثانياً: عدم استجابة الولايات المتحدة الأمريكية لاستغاثة أوكرانيا ليست الأولى من نوعها، بل الانسحاب الأمريكي غير المشروط من أفغانستان أواخر العام 2021 يضعف من موقف الولايات المتحدة الأمريكية ويقلل من إمكانية اعتبارها حليفاً جديراً بالثقة.

ثالثاً: عدم الرد الجاد من قبل الولايات المتحدة الأمريكية على الهجوم الروسي، وامتناع بعض الدول، ومنها الصين، عن الاعتراف بالعقوبات ضد روسيا لاعترافها باستقلال جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك عن أوكرانيا، يؤكد رغبة الدول في الانقلاب على النظام القائم، بما قد يفضي إلى إمكانية تكوّن نظام دولي جديد متعدد الأقطاب.

موقف الناتو وتأثيراته الأمنية

ينبغي قراءة تصريحات الناتو ضمن السياق السياسي والأمني، المرتبط بالسياسة الأمريكية والأوروبية، فعلى الرغم من تصريح الأمين العام لحلف شمال الأطلسي (ناتو)، ينس ستولتنبرغ، أن الحلف لا يملك قوات في أوكرانيا، ولا نية لإرسال قوات إلى الداخل الأوكراني، لم يتوقف الحلف عن تعزيز وجوده في الجزء الشرقي من حدود الحلف؛ وذلك من خلال “إرسال عناصر” من قوة الردّ التابعة للناتو، التي تضمّ 40 ألف جندي، ولديها قوة عمل مشتركة بجاهزية عالية، مؤلفة من 8 آلاف عسكري، بينهم 7 آلاف فرنسي، مع وحدة جوية موضوعة حالياً تحت القيادة الفرنسية.

هذه الاستعدادات، بالإضافة إلى تغير الموقف الأوروبي خصوصاً من قبل ألمانيا وفرنسا، تؤكد عدم إمكانية ترك أوكرانيا للقوات الروسية، وعدم إمكانية الاشتباك المباشر مع روسيا، ومن خلال دعم القوات الأوكرانية بالسلاح، مع مواصلة الضغوط الاقتصادية، فربما يتحول مشهد الحرب الجزئية إلى حرب استنزاف لروسيا في عمقها الاستراتيجي.

الموقف الروسي المتشدد تجاه أوكرانيا

هذا الموقف ليس وليد الأزمة الحالية، بل تعود جذوره إلى وقت سابق، ففي العام 2008 وخلال انعقاد قمة الناتو في بوخارست أعلن الرئيس الأمريكي، جورج بوش الابن، أن أبواب الناتو ستكون مفتوحة لأوكرانيا، لكن الرئيس الروسي حينها أكد أن أوكرانيا خط أحمر، وفي حال انضمت إلى الناتو “فإن وجود الدولة ذاته قد سيكون موضع شك”، ومن هنا يفهم الموقف الروسي برمته.

فالقضية بالنسبة لروسيا لا تتعلق بحساب آني للأرباح والخسائر، بل بالأمن القومي الروسي الذي ينبغي المحافظة عليه بأي ثمن، إذ تدرك روسيا حجم الخسائر التي ستترتب على العقوبات الاقتصادية، لكنها في الوقت نفسه تدرك عاقبة صمتها في حال استمر حلف الناتو في التوسع شرقاً، وفي حال ضم أوكرانيا بالفعل إلى هذا الحلف، ولذا تتمسك بموقفها المتشدد.

العقوبات الدولية وانعكاساتها

منذ اشتداد الأزمة الأوكرانية الروسية والدول الأوروبية تلوح بالعقوبات الاقتصادية، التي دخلت حيز التنفيذ عقب الهجوم الروسي مباشرة. تنوعت العقوبات لتشمل مجالات مختلفة يمكن إيجازها في النقاط التالية:

المجموعة الأولى: شملت هذه المجموعة حزماً من العقوبات الاقتصادية، منها:

– مُعاقبة عدد من البنوك الروسية المرتبطة بالجيش وصفقات السلاح.

– فرض عقوبات على عدد من رجال الأعمال وكبار الأثرياء المُقربين من الرئاسة الروسية، وأعضاء في البرلمان الروسي (الدوما).

– فرض قيود على الصفقات الأمريكية المُتعلقة بالديون الروسية، بالإضافة إلى وقف استكمال إجراءات بدء تشغيل “نورد ستريم 2” الذي انتهت روسيا من إقامته عام 2021 لنقل الغاز إلى ألمانيا ولم يبدأ العمل به بعد.

لم تتمكن هذه العقوبات من ردع روسيا التي تعد المورد الأساسي للغاز الروسي إلى الاتحاد الأوروبي، حيث تصل نسبة اعتماد دوله على الغاز الروسي إلى 40% من إجمالي استهلاكهم. وتُعد ألمانيا من أكثر الدول الأوروبية الكبيرة اعتماداً عليه؛ إذ تستورد قُرابة 65% من احتياجاتها من الغاز من روسيا، وتليها إيطاليا بنسبة 43%.

المجموعة الثانية: نتيجة لعدم استجابة روسيا لهذه العقوبات فقد رُفِع سقفها بحيث توسع نطاق العقوبات التي سبق فرضها، وأضيف حظر تصدير التكنولوجيا المُتقدمة لعدد من القطاعات الصناعية الاستراتيجية الروسية. وعلى الرغم من اعتماد روسيا على غازها الطبيعي ضمن مصادر تمويلها الرئيسية، يأتي قطاع التصنيع التكنولوجي أيضاً ضمن هذه القطاعات التي تعتمد عليها روسيا، وفي حال فَرْض مقاطعة دولية شاملة ستشهد روسيا تحديات جمة في قطاع التصنيع التكنولوجي، وهو ما سيؤثر في اقتصادها سلباً على المدى المتوسط والبعيد.

المجموعة الثالثة: طرد بعض البنوك الروسية من نظام سويفت العالمي، لم يُتَّخذ هذا القرار إلا بعد أن تحددت ملامح الحرب بشكل أقوى، ويهدف هذا القرار إلى الحيلولة دون استفادة البنوك الروسية من أسواق المال الغربية، ووضع قيود على استخدامها للدولار الأمريكي والين الياباني، وتجميد الأصول المادية والحسابات البنكية الروسية في البنوك الغربية. وبتطبيق هذا القرار سيكون من المستحيل تقريباً على المؤسسات المالية إرسال الأموال داخل البلاد أو خارجها، وهو ما يؤدي إلى صدمة مفاجئة للشركات الروسية وعملائها الأجانب، وخاصة مشتري صادرات النفط والغاز المقومة بالدولار الأمريكي.

وتهدف هذه الإجراءات إلى عزل روسيا اقتصادياً وإضعاف قُدراتها، وهو أمر قد يخلق حالة من السخط تطول النخب المقربة من بوتين، وقد تفضي إلى خلق تأثير على المستوى السياسي على المدى البعيد.

الانعكاسات الاقتصادية على روسيا

منذ استيلاء روسيا على شبه جزيرة القرم واجهت العقوبات الاقتصادية الدولية، وهو ما دفع الرئيس الروسي نفسه للتأكيد أن سياسة العقوبات لا تجدي؛ لأن روسيا تعودت على هذه العقوبات، وقد استعدت روسيا مسبقاً لمثل هذه العقوبات، فعلى سبيل المثال في السنوات الأخيرة اتخذت روسيا خطوات لتخفيف الصدمة إذا أزيلت من نظام(SWIFT) ، حيث استعدت موسكو وأنشأت نظام الدفع الخاص بها(SPFS) ، بعد فرض العقوبات عليها عام 2014 عقب ضمها لشبه جزيرة القرم. لدى (SPFS) الآن حوالي 400 مستخدم، وفقاً للبنك المركزي الروسي، وتجري حالياً 20% من التحويلات المحلية من خلال (SPFS)، لكن حجم الرسائل محدود والعمليات محدودة بساعات أيام الأسبوع. كما أنها- نظراً لتقارب موقفها “نسبياً” مع الصين- يمكن أن تستخدم نظام الدفع بين البنوك الجديدة في الصين (CIPS)، كما قد تلجأ إلى استخدام العملات المشفرة من أجل تجاوز حالة العزلة التي تراد لها.

لكن وعلى الرغم من استعدادات موسكو لهذه العقوبات تشير تقديرات إلى أن اقتصادها سيتأثر على المدى المتوسط والبعيد، فوفقاً لعمليات المحاكاة التي أجراها معهد “كيل للاقتصاد العالمي”، سوف ينخفض الناتج المحلي الإجمالي لروسيا بنحو 3% إذا توقفت جميع واردات وصادرات الغاز الروسي، وفي حال اقتصر وقف التجارة مع النفط سيؤدي إلى انخفاض بنسبة 1٪. كما ستؤثر الحرب في استمرار عمليات شركات النفط الغربية في القطاع البترولي الروسي من حيث إمكانية استمرار العمل في الحقول الروسية بمشاركة الشركات الروسية، وصعوبة حصول الصناعة الروسية على المكائن وقطع الغيار اللازمة، وهو ما سيؤدي بدوره إلى تباطؤ تطوير القطاع وتراجع الخطط التنموية له، بمعنى إمكانية انخفاض الطاقة الإنتاجية أو التصديرية مستقبلاً.

الانعكاسات الاقتصادية على أوكرانيا

حتى قبل أن تبدأ الحرب الروسية في أوكرانيا نشرت تقارير تقديرات مفترضة لحجم الخسائر الممكنة في أوكرانيا، بالإضافة إلى الخسائر الاقتصادية دولياً المترتبة على تدهور الأوضاع الأمنية والاقتصادية في هذا البلد، خصوصاً أنه يعد خامس أكبر مصدر قمح للعالم ويقدر بـ18 مليون طن سنوياً. وفي أول أربعة أيام للحرب نشرت تقارير روسية عدد المنشآت العسكرية التي استهدفها الطيران الروسي والتي تقدر بحوالي 1500 منشأة تتراوح بين 51 مركزاً للاتصالات، و38 منظومة للصواريخ، و427 دبابة ومركبة قتالية، بالإضافة إلى 36 مسيرة، فضلاً عن استهداف البنى التحتية التي تستنزف اقتصادات الدول في إعادة إنشائها.

وعلى الرغم من أن الموقف الأوكراني يعد الأضعف عسكرياً واقتصادياً مقابل روسيا، فإن توقيع طلب الانضمام للاتحاد الأوروبي أعاد التوازن للمشهد السياسي والعسكري، إذ من خلال توقيع هذا الطلب يتضح حجم الدعم الأوروبي لأوكرانيا، والذي سيكون له أثر كبير في سير المعارك خلال الفترة القادمة.

انعكاسها على دول الاتحاد الأوروبي

ثلث استهلاك الدول الأوروبية من الغاز يأتي من صادرات الغاز الروسي، وإذا استمر الحال بفرض هذه العقوبات لن تتضرر روسيا وحدها بل ستكون الدول الأوروبية أحد أكبر المتضررين من عدم وصول الغاز الروسي إليها. صحيح أن بإمكانها أن تحاول الحصول عليه من دول أخرى مثل قطر أو الولايات المتحدة أو أستراليا أو الجزائر أو النرويج أو مصر، كما من الممكن أن تُحوِّل دولٌ مستهلكة، مثل اليابان أو كوريا الجنوبية، جزءاً من إمدادات الغاز التي تم استيرادها، إلى أوروبا. لكن الأمر ليس بهذه السهولة؛ إذ تتطلب مهمة توفير إمدادات غازية لتعويض أوروبا بالغاز جهوداً وتكاليف ضخمة، والسبب في صعوبة التعويض هو أن تجارة الغاز محددة التوجه، إذ إن الغاز المستورد يتوجه مباشرة لتوليد محطات الكهرباء أو لتشغيل المصانع البتروكيماوية؛ فأي تأخير سيؤدي إلى توقف محطات الكهرباء، وهذا طبعاً سيؤدي إلى قطع الكهرباء وارتفاع سعرها، وهذا كله سيؤدي إلى مشاكل عدة مع المواطنين.

قد تلجأ الولايات المتحدة الأمريكية إلى تصدير الغاز المسال إلى الأسواق الأوروبية لمنافسة موسكو في واحدة من أهم أسواقها، حيث أصبحت منذ الربع الأخير لعام 2021 ضمن مجموعة أكبر ثلاث دول مصدرة للغاز المسال (الولايات المتحدة، وقطر، وأستراليا)، وكونها وصلت إلى هذه المكانة في أسواق الطاقة تصدر الشركات الأمريكية الغاز المسال للسوق الصينية، لكن في حال سعت للاستحواذ على السوق الروسية في أوروبا فسيخلق هذا نزاعاً جديداً بين الدولتين الكبريين.

انعكاسها على الاقتصاد الدولي

إن قدرة أوروبا على الاستغناء عن الغاز الروسي ستؤدي إلى هزة كبيرة في أسعار الغاز العالمية، وزيادة أسعاره، وستمتد انعكاسات هذا إلى زيادة سعر الغاز ومن ثم زيادة أسعار المواد الصناعية والبتروكيماوية التي تستوردها الأسواق الأجنبية. كما أن ارتفاع سعر الغاز أو ارتباك تجارته سيؤدي بدوره إلى زيادة الطلب على المنتجات البترولية وحتى الفحم الحجري، وهو ما سينعكس على أسواق الطاقة عالمياً، فكما هو ملاحظ تعد روسيا اليوم أكبر مصدر للغاز الطبيعي في العالم، وواحدة من أكبر مصدري النفط. ويشير خبراء إلى أن قطع هذه الصادرات يمكن أن يؤدي إلى ارتفاع أسعار تلك السلع بنسبة تصل إلى 50٪ حسب بعض التقديرات. بالإضافة إلى ذلك ستنعكس آثار الحرب القائمة بين روسيا وأوكرانيا على مستوى دولي نتيجة لإمكانية توقف توفير إمدادات القمح الضخمة، حيث تعتمد كثير من الدول على القمح المستورد من هاتين الدولتين.

مآلات الهجوم الروسي

تحليل الانعكاسات الممكنة من جراء تفاقم الأزمة الروسية- الأوكرانية ودخولها مرحلة حرب مباشرة يخلق جملة من التساؤلات حيال مآلات الحرب وإمكانيات احتوائها دبلوماسياً أو عسكرياً، ويمكن رسم هذه المآلات في ثلاثة سيناريوهات رئيسية:

السيناريو الأول: إمكانية احتواء الحرب دبلوماسياً

يفترض هذا السيناريو إمكانية احتواء الحرب الروسية- الأوكرانية دبلوماسياً عن طريق فرض العقوبات والبدء بالحوار الذي يكفل تحقيق توازن في المصالح الغربية وتهدئة المخاوف الروسية.

يعزز من إمكانية تحقق هذا السيناريو:

  • العقوبات الاقتصادية الموجهة لردع الهجوم الروسي كبيرة ومتنوعة، وتأتي ضمن الجهود الدبلوماسية التي تعتمدها الأطراف الدولية لكبح جماح الهجوم الروسي عن طريق استخدام سياسة الضغط الاقتصادي؛ إذ كان بالإمكان حل أزمة أوكرانيا دبلوماسياً كما حلت أزمة برلين 1961 وأزمة الصواريخ الكوبية 1962 خلال الحرب الباردة.
  • يرجح من إمكانية تحقق هذا السيناريو رغبة الطرفين؛ موسكو وكييف، بالذهاب إلى طاولة الحوار من أجل حسم المسائل التي لم تحسم عسكرياً، كما أن العقوبات الاقتصادية سيكون لها آثار اقتصادية وسياسية لا ترغب بها روسيا، ومن هنا قد توافق في لحظة من اللحظات على الحلول الدبلوماسية إذا ما تضمنت شروطها الرئيسية، وعلى رأسها عدم توسع الناتو شرقاً وضم أوكرانيا لهذا الحلف.

ويضعف من إمكانية تحقق هذا السيناريو:

  • استعداد روسيا المسبق لمختلف أنواع العقوبات الدولية، فضلاً عن أن لديها خبرة سابقة في التعامل مع هذه العقوبات منذ العام 2014، وهو ما يشير إلى إمكانية تغلبها على التهديدات الاقتصادية في سبيل تحقيق أهدافها التي ابتدأت لأجلها الحرب في أوكرانيا.
  • وضعُها لثقلها العسكري والسياسي بالكامل في أوكرانيا وعدمُ استجابتها للعقوبات الاقتصادية حتى اللحظة يضعف من إمكانية احتواء هذه الحرب دبلوماسياً على الأقل في الفترة القريبة القادمة.

السيناريو الثاني: إمكانية إنهاء الحرب عسكرياً

يفترض هذا السيناريو تمكن روسيا من حسم معركتها في أوكرانيا عسكرياً، عن طريق الاستمرار في تنفيذ العمليات الموسعة والسيطرة على المناطق الحيوية والوصول إلى كييف لإسقاط النظام الديمقراطي الموالي للغرب.

يعزز من إمكانية تحقق هذا السيناريو:

  • الوجود العسكري الروسي الضخم، والعمليات الموسعة ضد كييف، وعدم الاستجابة للضغوط الاقتصادية الدولية، بالإضافة إلى عدم تنازلها عن مطالبها في حوارها مع كييف، يؤكد رغبة روسيا في حسم المعركة عسكرياً، لكن موقفها مرهون بعاملين: قدرتها على الصمود أمام العقوبات الاقتصادية، وعدم انضمام القوى المحايدة في موقفها- كالصين- إلى المواقف الدولية.
  • تتمسك روسيا بموقفها المتشدد من حربها في أوكرانيا بإدراكها لأهمية دورها في أسواق الطاقة، إذ في حال استمرت العقوبات الدولية عليها فلن تكون هي المتضرر الوحيد، بل ستتضرر أسواق الطاقة، وسيتأثر الاقتصاد العالمي ككل.

يضعف من إمكانية تحقق هذا السيناريو:

  • تصنف المعركة الروسية في أوكرانيا أنها معركة لا يمكن الفوز بها، وذلك لتشابك المصالح وثقل أوزان أطراف الصراع، فمن جهة تقف روسيا بثقلها العسكري والسياسي والاقتصادي أمام الدول الأوروبية المسيطرة على النظام الدولي الحالي بمؤسساته الاقتصادية والسياسية، وبهذا يمكن التنبؤ بصعوبة الحسم العسكري في ظل تغير مواقف الأطراف الدولية، خصوصاً مواقف بعض الدول الأوروبية ذات الوزن الاقتصادي والسياسي.
  • رغم الاستعداد المسبق من قبل روسيا للعقوبات الدولية، تشير تقارير إلى أن آثار هذه العقوبات لا تظهر إلا على المستوى المتوسط والبعيد، وبهذا لا يمكن الجزم بإمكانية أن تتغلب روسيا على هذه العقوبات في ظل خسائرها الباهظة في معركتها في أوكرانيا.

السيناريو الثالث: تحولها إلى حرب استنزاف لروسيا

يفترض هذا السيناريو إمكانية أن تتحول حرب روسيا في أوكرانيا إلى حرب استنزاف تثقل الكاهل الروسي، على غرار معركتها في أفغانستان سابقاً، إذ اتضح بعد مرور الوقت أن حربها في أفغانستان لم تكن سوى فخ وقعت فيه وخسرت مكانتها الدولية سابقاً، ومن يدري لعل حربها في أوكرانيا تكون فخاً آخر.

يعزز من إمكانية تحقق هذا السيناريو:

  • حجم الخسائر العسكرية التي تتكبدها القوات الروسية في معاركها في أوكرانيا ضخمة، وهو ما يؤكد إمكانية ألا تتمكن من حسمها خلال مدة قصيرة، وفي ظل تغير المواقف الدولية والدعم العسكري المتنوع من الاتحاد الأوربي لأوكرانيا قد يسهم في استمرار المعركة إلى وقت أطول، وهو ما يعني أن تتحول بالفعل إلى حرب استنزاف لروسيا.
  • المواقف الدولية المنددة بالغزو الروسي لأوكرانيا، بالإضافة إلى حزم العقوبات الاقتصادية الدولية قد تسهم في إعادة العزلة السياسية لروسيا، وهو ما يمثل بعداً آخر لحرب الاستنزاف التي قد تواجهها روسيا، وهذه العزلة قد تكون ضمن أبرز الأخطار التي قد تواجهها روسيا خلال المرحلة القادمة.

يضعف من إمكانية تحقق هذا السيناريو:

  • صعوبة الاستمرار بتنفيذ حزم العقوبات الاقتصادية لتكلفتها الباهظة على الاقتصاد الدولي من جهة، ولاعتماد الدول الأوروبية على الغاز الروسي اعتماداً أساسياً، من جهة أخرى، ويأتي مشروع “نورد ستريم 2” -الذي انتهت روسيا من إقامته عام 2021 لنقل الغاز إلى ألمانيا – ضمن هذه المشاريع المكلفة التي لا يمكن تجاوز الخسائر المادية في تأسيسه، إذ ستضطر هذه الدول إلى إيجاد صيغة توافقيه لمصالحها من أجل سداد تكاليف هذا المشروع.
  • الضغط السياسي والاقتصادي على روسيا سيعزز من إمكانية تقاربها أكثر مع الصين، وهو أمر لا ترغب فيه لا أمريكا ولا الدول الأوروبية، ومن هنا يمكن التنبؤ بإمكانية سعي الأطراف إلى حسم هذه الحرب دبلوماسياً حتى لا تتحول إلى حرب استنزاف لا تكون فيها روسيا الخاسر الوحيد بل جميع أطراف النظام الدولي القائم.

خاتمة

لا تزال خارطة الصراع القائمة تتشكل نتيجة لتسارع الأحداث من جهة، ولحساسية موقع أوكرانيا التي تمثل بعداً أمنياً استراتيجياً لكلا الطرفين؛ الروسي والأوروبي، من جهة أخرى. وعلى الرغم من ضبابية مشهد الحرب القائمة وصعوبة التنبؤ بمآلاتها، ثمة عوامل وتساؤلات ينبغي التركيز عليها أثناء مطالعة مشهد الحرب برمته. قد تبدو روسيا وكأنها تطلق على نفسها رصاصة رحمة أخيرة بقبولها مواجهة دول وقوى النظام الدولي القديم، إذ تدرك روسيا أن الهدف من العقوبات الاقتصادية هو تطويقها وإعادتها إلى حالة العزلة الدولية التي فرضت عليها منذ سقوط الاتحاد السوفييتي، لكنها في الوقت نفسه تدرك أن ثمة سياقات دولية برزت في السنوات الأخيرة وينبغي عليها توظيفها للدفاع عن مجالها الحيوي.

فالنظام القطبي الأحادي بدأ يتآكل بتراجع القوة المهيمنة للولايات المتحدة الأمريكية من جهة، وببروز قوى سياسية واقتصادية تبشر بإمكانية ظهور نظام متعدد الأقطاب، من جهة أخرى. قد يبدو تشكل هذا النظام والإعلان عنه وشيكاً، ولكن من يدري لعل جر روسيا للحرب في أوكرانيا يسهم في إضعاف تحالفها مع الصين، وهو ما يعني إمكانية تأخير ميلاد النظام متعدد الأقطاب.

 

زر الذهاب إلى الأعلى