عاطف عبد الغنى يكتب: كنا ننتظره من الغرب ففاجئنا بزوغه من الشرق.. النظام العالمى الجديد (1من2)
“اضرب المربوط يخاف السايب” هكذا شرعت الإمبراطورية الأمريكية تدشن النظام العالمى الجديد، وتؤهل نفسها لقيادة العالم منفردة.
كان ذلك قبل ما يقرب من 30 عاما، وقد انتهت من إنجاز مهمة تفكيك الاتحاد السوفيتى، قطب التوازن الاستيراتيجى العالمى.
وفى غمار نشوة الفوز، سارع نفر فى الغرب يعلن أن حركة التاريخ توقفت عند اللحظة التى انتصرت فيها الرأسمالية، والنيوليبرالية، على عدوها اللدود الشيوعية بعد صراع حقبة الحرب الباردة التى انطلقت مع نهايات الحرب العالمية الثانية (1948) وما عداها من أيديولجيات.
المشاريع الإمبراطورية الاستعمارية جزء من المكون الاستيراتيجى للدولة الأمريكية، ومن خلالها لا يتم فقط استعرض القوة، ولكن أيضا تنشيط مبيعات السلاح، وتجربة الجديد منه فى أرض حقيقية للمعركة.
يقول الداهية الأمريكى زبيجنيو بريزنيسكى Zbigniew Brzezinski فى احد كتبه: “على النقيض من “الإمبراطوريات السابقة”، فإن نطاق وانتشار القوة العالمية الأمريكية اليوم أمران فريدان ولا تسيطر الولايات المتحدة على جميع محيطات العالم فحسب، بل إن جحافلها العسكرية تطفو بقوة على الأطراف الغربية والشرقية لأوراسيا.. التوابع والروافد الأمريكية، التي يتوق بعضها إلى أن تتبناها روابط رسمية أكثر مع واشنطن، تنتشر في جميع أنحاء العالم، قارة أوراسيا.. التفوق الأمريكي العالمي.. يتغذى بنظام متطور من التحالفات والائتلافات التي تمتد حرفياً عبر العالم”. (رقعة الشطرنج الكبرى: الأسبقية الأمريكية وضروراتها الجيوستراتيجية، (Perseus Books ، New York ، 1997 ، ص 23).
فى نفس العام الذى صدر فيه كتاب بريزنيسكى (عام 1997) والمشار إليه آنفا، تم الإعلان عن تأسيس مركز تفكير استيراتيجى، مقره واشنطن العاصمة وتأسس كمنظمة تعليمية غير ربحية من قبل وليام كريستول وروبرت كاجان، وحمل المركز اسم “مشروع المواطنة الجديدة” ويتمثل الهدف المعلن لهذا المركز في “تطوير القيادة الأمريكية للعالم”.
وكان أول عمل علني لـلمركز هو إصدار “بيان المبادئ” في 3 يونيو 1997، وحمل البيان 25 توقيعا، شملت توقيعات أعضاء المشروع والداعمين الخارجين، وجاء فى البيان أن الولايات المتحدة الأمريكية هى “القوة البارزة في العالم”، وأن الأمة تواجه تحديًا “لتشكيل قرن جديد يلائم المبادئ والمصالح الأمريكية.
وما لبث أن أصدر المركز مشروع القرن الأميريكى الجديد: (PNAC) والحروف اختصار للتسمية الإنجليزية: (Project for the New American Century).
وانطلق منظرو المشروع من قاعدة مفادها أن “القيادة الأمريكية جيدة لكل من أمريكا والعالم، ويدعمون سياسة ريجانية (نسبة إلى الرئيس رونالد ريجان) تقوم على القوة العسكرية والكفاءة الأخلاقية.
وبما أن أعضاء المركز تقلدوا مناصب إدارية أساسية، فقد أثروا في مسؤولين أمريكيين عالين في إدارة الرئيس جورج دبليو بوش، وأثروا في تطوير إدارة الأخير للسياسات العسكرية والخارجية، وخاصة تلك المتعلقة، بالأمن القومى الأمريكى.
وبات من الواضح أن صانعى القرار فى الدولة الأمريكية العميقة يدفعون بقوة لتشغيل آلة الحرب بطاقتها القصوى، وأن أمريكا الإمبريالية – فى هذا العقد الأخير من القرن العشرين – يتم تجهيزها بخطوات عملية لغزو مساحات شاسعة من العالم، تتمثل فى دول بعينها فى الشرق الأوسط، والمنطقة العربية، ومنطقة أوراسيا، حيث تمثل هذه الدول مفاتيح، ومفاصل النظام العالمى الجديد/ القديم، لتضمن، الهيمنة، والثروة، والولاء، وفى جانب أخر تقلص فرص عودة الشيوعية للتمدد من خلال الاتحاد الروسى الذى ورث ما تبقى من الاتحاد السوفيتى القديم، وأيضا تحاصر الصين التى كانت تصعد وتنمو فى كل المجالات بهدوء، ودون ضجيج لتبنى ركائز دولة إمبراطورية حديثة من خلال امتلاك القوة الشاملة.
ولا يجب أن ننسى أن دماغ الإمبراطورية الأمريكية معقدة، لكنها ليست عصية على التفكيك، وفهم الأفكار والتوجهات التى تسيطر عليها وتوجهها، وترسم ملامح استيراتيجياتها التى تقودها فى النهاية إلى خياراتها، وتحيزاتها، فى قراراتها الحاكمة.
ومنذ نشأتها الأولى تسربت إلى دماغ الولايات المتحدة، الأفكار التلمودية الصهيونية، ونشطت الجماعات الماسونية فى إقناع المسيحيين اليمينيون المطردون من بريطانيا، أنهم يكررون هجرة آباء العهد القديم فى هجرتهم إلى صهيون، وما هم إلا امتداد للعبرانيين الآوائل الذين هاجروا مع أبيهم إبراهام إلى العالم الجديد.
وما سبق وأفكار أخرى ورثها وطورها فصيل من تيار اليمين الأصولى الإنجيلى، الحديث، الذى يدعم إسرائيل – لأجل قيام مملكة الرب – بأكثر من اليهود.
وهذا اليمين الإنجيلى هو الذى تسرب إلى دماغ جورج بوش الابن، (أغبى من حكم أمريكا فى تاريخها)، وزرع فيه قناعة أنه صاحب رسالة روحية وأخلاقية تجاه العالم، فانطلق يحارب الأشرار فى العراق، وأفغانستان، كبداية لغزو الشرق.
وخلال نصف القرن الأخير على الأقل انتشر المفكرون الذين رضعوا لبن الصهيونية كالجراد فى مراكز التفكير الاستيراتيجى “الثنك تانكس” المنتشرة فى الغرب كله، وفى أمريكا بالتحديد وفى أروقة الإدارات الأمريكية المختلفة، يطبخون خطط غزو الشرق ويقبضون من الملياردرات اليهود أمثال: جورج سورس، ممول ومهندس الثورات الملونة، والربيع العربى، وشيلدون أديلسون أبرز مهندسى العلاقات الأمريكية ـ الإسرائيلية، وممول نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس، وحاييم صابان صديق آل كلينتون، وصاحب واحد من أكبر مراكز التفكير “الثنك تانكس” والذى لعب دورا كبيرا وخطيرا فى التخطيط والتفيذ لما يسمى الربيع العربى.
هؤلاء المليارديرات، والعشرات غيرهم من اليهود الذين يسيطرون على جانب كبير من الثروة والنفوذ فى أمريكا، لا ينسون للحظة أنهم يهود، وأن هناك فى الشرق دولة اسمها إسرائيل، يجب أن تصعد لتسيطر على الشرق الأوسط وتحكمه، وهم كفيلون بحكم أمريكا التى تحكم العالم، فيكون اليهود هم الذين يحكمون العالم.
المجمّع الصناعي العسكري الأمريكى أيضا، وهو متغلغل فى البنية السياسية للدولة الأمريكية العميقة، يهمه أن يشغّل مصانع السلاح، وتجارته، ولن يكون هذا إلا بإشعال الحروب وتزكيتها، فى بقاع مختلفة من العالم.
نهاية الثمانينيات تم إسقاط الاتحاد السوفيتى، وظن الغرب المغرور، فى لحظات انتصاره المذهل، أن هذا العدو انتهى تقريبا، ولن تقوم له قائمة لعدد كبير من السنوات فى المستقبل، وفى هذه الحالة لابد من البحث عن عدو بديل..
واقترح “الثنك تانك” الصهيونى أنه آن الآوان، للتوجه إلى المنطقة العربية، على أن تكون البروفة لتجربة السياسات الجديدة فى دول أوروبا الشرقية التى انفصلت عن الاتحاد السوفيتى، لضمان تغيير أيدلوجيتها الشيوعية السابقة لصالح الرأسمالية، وضمان ولائها سياسيا للمعسكر الغربى، لتصبح حائط صد أولى إذا ما نهض الدب الروسى من سباته، ومحاصرته فى دائرته الإقليمية على الأقل، ومن هنا كانت الثورات الملونة، للتخلص من الأنظمة الميالة أو الموالية للمعسكر الشيوعى القديم، ووضع حكام من العملاء، أو الموالين على الأقل.
كانت هذه الثورات أيضا تمثل بروفة لما هو قادم ومهم، فى منطقة الشرق الأوسط، فى البلاد الإسلامية وفى القلب منها البلاد العربية، مع التركيز على دول المواجهة التى مثلت خطرا على إسرائيل، سوريا ، والعراق، وليبيا القذافى، والجائزة الكبرى مصر.
وبمسميات تشبه عناوين أفلام هوليود انطلقت ما سمى بالثورات الملونة: (الثورة الوردية) في جورجيا و (الثورة البرتقالية) في أوكرانيا و (ثورة التوليب أو ثورة السوسن أو ثورة الزنبق أو ثورة الأقحوان أو الثورة الزهرية) في قيرغيزيا، كان تكنيك انبعاث هذه الثورات وتكتيكاتها كلها واحد، والمعنى أن مصدر التخطيط لها واحد، وعرفنا فيما بعد أنها حروب الجيل الرابع، التى تقوم على تكتيكات الكفاح السلمى، (المستوحى من تجربة غاندى فى مكافحة الاستعمار الإنجليزى لبلاده الهند)، ونشر الشائعات، والأناركية، وتوظيف المجتمع المدنى، وإسقاط الدول من الداخل بتحريض ودفع من الخارج.
فى هذه الحقبة توالى على إدارة / وزارة الخارجية الأمريكية، 3 وزيرات يهوديات الهوى، صهيونيات العقيدة، راضعات لبن “المحافظون الجدد”، هذا التيار الذى خرج من صفوقه صقور أمريكا الديموقراطيون أمثال ديك تشيني، دونالد رامسفيلد، جيب بوش، باول ولفووتز، تجار الدم والسلاح الذين لا يعرفون إلا لغة القوة والغزو والحرب، وتشغيل الآلة العسكرية، وهذه الفئة هى التى انتمى إليها صقور الحرب على العراق، أما الوزيرات الثلاث اللاتى قصدتهم فى سابق كلامى فهن بالترتيب: مادلين أولبرايت، ثم كونداليزا رايس، فهيلارى كلينتون.
بحق السماء أى شيطان رجيم تلبس هاتى النسوة، وتحكم فى توجهاتهن، ليسعين جاهدات لتقسيم خريطة العالم إلى قطع قابلة للشوى والالتهام على مائدة الاستعمار الأمريكى بدعوى نشر نظام عالمى جديد، فى إطار فرض الوصاية على العالم وحاولوا إيجاد مبرر أخلاقى لهذا الغزو فقالوا أنهم يسعون لمحاربة الإرهاب، ونشر الديموقراطية.. والغزاة كاذبون للنخاع بشأن الوظيفتين !!
مرة اخرى : بدأ تدشين النظام العالمى الجديد من حرب العراق، أو قل تحطيم قوة العراق بعد جره إلى غزو الكويت، وبعد مرور 30 عاما تقريبا من تدشين ضربة البداية، دار الزمان دورته، وبعد أن كنا ننتظر بزوغ هذا النظام العالمى الجديد من الغرب، يلوح أمام ناظرينا الآن بزوغه من الشرق.. انتظرونا فى محاولة لاستجلاء القادم.