د. إسلام جمال الدين شوقي يفسر أحداث العصر طبقا لنظرية: «البجعة السوداء» | خاص

تقديم:

يطرح د. إسلام جمال الدين شوقي الخبير الاقتصادي، عضو الجمعية المصرية للاقتصاد السياسي، فى السطور التالية، رؤية مستقاة من نظرية مستحدثة تحمل عنوان: “البجعة السوداء”، ومن خلال هذه النظرية يمكن أن نفسر، كثير  من أحداث العصر المنظورة، وتداعياتها، وآثارها، وتأثيرها على الواقع الذى نعيشه.

                                                                                                                                                                                                « بيان »

الموضوع:

البجعة السوداء شاهد على أحداث العصر:

في ظل حالة عدم اليقين التي نعيشها هذه الأيام؛ حيث عالم مليء بمتناقضات وغرائب تفرض علامات استفهام حول البحث عن حلول لها؛ فكل ما يدور حولنا من أحداث يتطلب الفهم الدقيق، وإيجاد طرق صحيحة، واستخدام منهج التحليل والأدوات المناسبة والتفكير؛ باستخدام نظريات نصل من خلالها إلى الحقائق، ونفهم بها طبيعة ونوع الأحداث.

كان هناك اعتقاد سائد في الماضي لدى الأفراد بمعظم أنحاء العالم أن طيور البجع جميعها بيضاء اللون، حيث كان هذا الاعتقاد راسخًا في العقول ولا يقبل المناقشة باعتباره حقيقة علمية مسلم بها حيث كانت كل الأدلة الواقعية تؤكد ذلك، إلى أن تم اكتشاف أول بجعة سوداء عندما اكتشف الهولنديين قارة استراليا في القرن السابع عشر.

مفاجأة مدهشة لعلماء الطيور

ولقد كان ظهور البجعة السوداء للمرة الأولى مفاجأة مدهشة لعلماء الطيور، ولكن مايهمنا من هذه القصة هو أن معارف الإنسان محدودة وضيقة بالرغم من تحصيل هذه المعارف عن طريق الملاحظة والتجريب إلا أنه بمجرد ظهور بجعة واحدة سوداء كانت كفيلة بأن تهدم مصداقية مفهوم شائع لدى الأفراد من المشاهدة لملايين من البجع الأبيض على مدى قرون عديدة، لذلك بات تعبير أو مصطلح البجعة السوداء بأن المستحيل من الممكن تحققه.

البجعة السوداء هي حدث لا يمكن التنبؤ به، ويكون غير متوقع إلى حد كبير، وتتميز أحداث البجعة السوداء بندرتها الشديدة كما أن تأثيرها في المجتمعات أو الاقتصاد يكون قوي جدًا، وبالرغم من وضوحها إلا أن إدراكها يتم اكتشافه متأخرًا، ويمكن أن تتسبب أحداث البجعة السوداء في حدوث أضرار كارثية على الاقتصاد، وذلك نظرًا لعدم التنبؤ بها وبالتالي لايمكن الاستعداد لها إلا من خلال بناء نظام اقتصادي قوي قادر على امتصاص الصدمات بسهولة.

يتعرض العالم لأحداث عديدة بعضها مفاجئ والبعض الآخر صعب التنبؤ به سواء على المستوى الاقتصادي أو السياسي أو العسكري ويظل العالم يُعاني من تأثيرها لفترات طويلة، وهو الأمر الذي قد يُعيد إلى الأذهان نظرية البجعة السوداء “Black Swan Theory” لصاحبها “نسيم نيكولا طالب” وهو كاتب أمريكي من أصل لبناني، تم نشر نظريته في كتاب بعنوان “البجعة السوداء” في فبراير عام 2007، وهو المجلد الذي تُرجم إلى 31 لغة تقريبًا، وحظيَ بمبيعات تبلغ ملايين النسخ.

نظرية البجعة السوداء:

نظرية البجعة السوداء هي حدث نادر وغير متوقع له تداعيات ضخمة، يكاد يكون من الصعب أو المستحيل التنبؤ به، وبالتالي من المستحيل التخفيف من أثر هذه الأحداث، ولكن في وقت لاحق، يبدو الحدث واضح ولا مفر من حدوثه ، أحداث البجعة السوداء تكون في العادة غير محتملة إلى حد كبير، ومن الصعب التنبؤ بالأحداث التي تنتهي بنتائج وتأثيرات قوية وشديدة.

ويطرح نسيم في كتابه فكرة أن معرفتنا بالأشياء محدودة جدًا لأنها في الغالب نابعة من دراسة وملاحظة الأحداث التي وقعت في الماضي، ولكن بمجرد أن تطرأ حالة واحدة غير معروفة من قبل فإن نظام التفكير بأكمله يتهاوى بما فيه المعتقدات والافتراضات فبمجرد مشاهدة واحدة لبجعة سوداء كفيلة للإطاحة بمصداقية مفهوم شائع سنوات عديدة لملايين من البجع الأبيض، وما يترتب عن ذلك من نتائج وخيمة على الحياة وكذلك على المجتمع والاقتصاد.. هكذا تقوم نظرية “نسيم طالب” الذي عمل لمدة 21 عامًا في “وول ستريت”.

ولقد أوضح نيكولاس طالب في كتابه نظرية البجعة السوداء أن هناك ثلاثة معايير رئيسية تساهم في تحديد حدث البجعة السوداء وهي:

– مفاجيء وغير متوقع.
– تأثيره يكون كبير وضخم ومن الممكن أن يكون كارثي.
– بعد حدوثه ينظر الأفراد إليه على أنه يمكن التنبؤ به ومحاولة إيجاد تفسير منطقي له ومحاولة إدراجه ضمن الأمور المتوقعة التي كان من الممكن التنبؤ بها.

وغالبًا ما يفشل الاعتماد على الأدوات القياسية الخاصة بالتنبؤ خاصةً أمام حدث من أحداث البجعة السوداء، ومن الممكن أيضًا التعرض لخطر أكبر نتيجة الاعتماد على أدوات التنبؤ القياسية التي تقدم أمانٍ زائف أو التعريف بمخاطر لن تقع في الوقت الحالي أو التقليل من أهمية مخاطر أو استبعاد حدوثها.

ويُعدُ الجانب الرئيسي والهام من البجعة السوداء هو أنه حدث مهم تاريخيًا، يحرص المراقبون على تفسيره بعد وقوع الحقيقة والتكهن بكيفية توقعه، ومع ذلك، فإن مثل هذه التكهنات بأثر رجعي لا تساعد على أرض الواقع بشئ بتوقع حدوث البجعة السوداء.

كيف إذًا، يمكن استغلال نظرية البجعة السوداء في القرارات الاقتصادية أو الاستثمارية؟

هناك العديد من الطرق التي تمكننا الاستفادة من أحداث البجعة السوداء، ومنع معاناة البشر من حدوث خسائر كارثية عند وقوعها، ويمكن تحقيق هذه الاستفادة من خلال الآتي:

– من وجهة النظر الاقتصادية أو تحديدًا الاستثمارية يمكن من خلال الفهم الجيد لآليات السوق وقبل حدوث البجعة السوداء أن يتم تفادي عنصر المفاجأة وبالتالي سيتم التحكم في رد الفعل وفي حينها سيتم التفكير بعقلانية ويتم أخذ القرار بهدوء.

– في أوقات حدوث الأزمات يكون هناك دائمًا فرص تحتاج إلى اقتناصها فإذا حدث شئ غير متوقع فإنه بالتبعية سيؤدي إلى حدوث انهيار في سوق المال وستحدث خسائر كبيرة في سوق الأسهم.

وبالتالي يكون هذا هو وقت الاستثمار المناسب سواء للأفراد أو الشركات نظرًا لشراءهم الأسهم في هذا التوقيت بسعر منخفض، وبعد فترة وجيزة يحدث تعافي لسوق الأسهم يمكن بعدها بيع الأسهم التم شراءها بسعر منخفض بسعر مرتفع نظرًا لانتعاش السوق مرة أخرى بعد تخطي حادث البجعة السوداء.

– هناك سياسة اقتصادية هامة يجب تبنيها عند الاستثمار وهي “سياسة التنويع” أي عدم وضع جميع الأموال في مشروع واحد، ولتوضيح ذلك هناك حكمة قديمة لا تضع البيض كله في سلة واحدة، أي يجب عليك تقسيم رأس المال الخاص بك من خلال الاستثمارات المتعددة والمتفاوتة في المخاطر، وفي حالة حدوث أزمة مفاجئة فإن التنويع سيحد وسيخفف من أثر وتبعيات تلك الأزمة.

شواهد وأمثلة على أحداث البجعة السوداء:

عند تأمل التاريخ نجد أنه مليء بالأحداث التي لا يمكن مجرد التفكير في حدوثها أو مجرد التفكير في إمكانية حدوثها بالرغم من وجود شواهد تنذر بإمكانية الحدوث نذكر منها على سبيل المثال:

– الحرب العالمية الأولى: بدأت بمقتل ولي عهد النمسا في عام 1914 على يد مجموعة من القتلة وحتى بعد عملية القتل لم يكن هناك رد فعل قوي من الشعب النمساوي حتى ظن الناس أن عملية القتل هذه سوف تمر دون أي ردة فعل إلى أن تطور الأمر بحدوث الحرب العالمية الأولى « فمعظم النار من مستصغر الشرر».

– الأثنين الأسود: هو الاسم المرتبط بالانهيار المفاجئ والحاد للأسواق المالية العالمية في يوم الأثنين 19 أكتوبر 1987، ويسمى في نيوزيلندا واستراليا بالثلاثاء الأسود نظرًا لفرق التوقيت، حيث تعرض أكبر 23 سوق مالي بالعالم لانخفاض حاد جدًا بالأٍهم، حيث هبطت 8 أسواق بين 20-30%، 3 أسواق هبطت 30-40%، 3 أسواق انخفضت بأكثر من 40% ، وقرر البنك الفيدرالي الأمريكي والبنك المركزي الياباني، والألماني بضخ سيولة ضخمة جدًا في مخاطرة نوعية كبيرة من أجل عدم خلق شلل في الأسواق العالمية.

– تفكك الإتحاد السوفيتي في 26 ديسمبر 1991: حيث كان الانهيار الاقتصادي أحد أكبر مشاكل الإتحاد السوفيتي بعد تفككه، وذلك نظرًا لأن الاقتصاد في هذه الدول كان مخططًا مركزيًا على عكس اقتصادات السوق في معظم الدول الأخرى.

– في عام 2001: هناك مثالين لأحداث البجعة السوداء أحدهما داخل سوق المال والآخر خارج سوق المال،
المثال الأول من داخل سوق المال، حيث تُعدُ فقاعة الإنترنت حدثًا يمثل أحد أحداث البجعة السوداء حيث كانت أمريكا تتمتع بنمو اقتصادي سريع وزيادات في الثروة الخاصة قبل انهيار الاقتصاد بشكل كارثي نظرًا لأن الإنترنت كان في حداثة مهده من حيث الاستخدام التجاري، وكانت صناديق الاستثمار تستثمر في شركات التكنولوجيا ولكن كان لا يوجد لها جاذبية في السوق، عندما انسحبت هذه الشركات، وتضررت الأموال بشدة، وتم تمرير خطر الهبوط للمستثمرين، وكانت الحدود الرقمية جديدة وقتها ويكاد يكون من المستحيل التنبؤ بالانهيار .

المثال الثاني من خارج سوق المال، وهو هجمات 11 سبتمبر الإرهابية حيث لا يمكن لأحد أن يتخيل أن البرجين التوأمين لمركز التجارة العالمي كانا مستهدفين وكانت العواقب وخيمة –وألقت بظلالها على الاقتصاد العالمي، وكانت هناك وجهة نظر أنه كان من الممكن التنبؤ به نظرًا لقيام أسامة بن لادن بتأسيس تنظيم القاعدة قبلها ب13 عامًا، وقيل أن شركات الطيران والمطارات كانت في حالة تأهب وكان هناك تحذيرات من وكالات المخابرات المركزية الأمريكية من أن بن لادن عازم على ضرب الولايات المتحدة الأمريكية.

– الأزمة المالية العالمية: انفجرت الأزمة في سبتمبر 2008 والتي تعتبر من أسوء الأزمات في نوعها منذ أزمة الكساد الكبير 1929 والتي بدأت من الولايات المتحدة الأمريكية ثم امتدت إلى دول العالم في آسيا وأوروبا والخليج والدول النامية التي يرتبط اقتصادها بأمريكان وقد وصل عدد البنوك التي انهارت في الولايات المتحدة الأمريكية 19 بنكًا خلال عام 2008، وكان سبب الأزمة الرئيسي هو الرهن العقاري.

– انسحاب بريطانيا من الإتحاد الأوروبي: جاء بعد الاستفتاء في 23 يونيو 2016 حيث صوت 51,9% لصالح الانسحاب، وتم الخروج في يوم السبت 1 فبراير 2020 بعد 47 عامًا على عضويته في الإتحاد الأوروبي.

فيروس كورونا للوهلة الأولى بجعة سوداء لكن لنسيم نيكولا وجهة نظر أخرى:

وفقًا لصندوق النقد الدولي فإن الاقتصاد العالمي في مستهل عام 2022 أصبح في وضع أضعف مما ورد في التوقعات السابقة فمع انتشار سلالة “أوميكرون” الجديدة المتحورة من فيروس كوفيد-19، عادت البلدان إلى فرض قيود على الحركة، وأدى تصاعد أسعار الطاقة والانقطاعات في سلاسل الإمداد إلى ارتفاع التضخم واتساع نطاقه عن المستويات المنتظرة، ولا سيما في الولايات المتحدة وكثير من اقتصادات الأسواق الصاعدة والاقتصادات النامية، وباتت آفاق النمو محدودة أيضًا في الصين من جراء الانكماش الجاري في قطاع العقارات وبطء تعافي الاستهلاك الخاص مقارنة بالتوقعات، لذلك قد يمثل الفيروس بجعة سوداء ذات تأثيرات هائلة.

ومن المفارقات العجيبة وغير المتوقعة أن الكثير من الباحثين والكتاب والمتخصصين اعتبروا فيروس كورونا بجعة سوداء في عام 2020، إلا أن نسيم نيكولا مؤلف نظرية البجعة السوداء نشر في مقال له أن جائحة كورونا هي بجعة بيضاء وليست سوداء، وبرر ذلك قائلًا أن احتمالية ظهور وباء ينتشر حول العالم ويكون له تداعيات اقتصادية أمرًا كان متوقعًا، وليس مفاجئ نتيجة العولمة والترابطات المعقدة، واستشهد بأنه قدم استشارة لحكومة سنغافورة وأنها كانت مستعدة بخطة دقيقة لحدوث هذا الاحتمال منذ عام 2010.

– الحرب الروسية الأوكرانية:

لا تُعدُ الحرب الروسية في أوكرانيا بجعة سوداء بل بجعة بيضاء، وذلك نظرًا لأنها كانت متوقعة الحدوث ولم تكن مفاجئة حيث كانت بداية الصراع بحشد عسكري كبير، في البداية في مارس – أبريل 2021، ثم من أكتوبر 2021 وحتى فبراير 2022، وخلال الحشد العسكري الثاني أصدرت روسيا مطالب للولايات المتحدة والناتو حيثُ تقدمت بمشروعي معاهدتين تضمَّنتا طلباتٍ لما وصفته «بالضمانات الأمنيّة» بما في ذلك تعهد ملزِمٌ قانونًا بعدم انضمامِ أوكرانيا إلى منظمة حلف شمال الأطلسي وكذا خفض قوات الناتو والعتاد العسكري المتمركز في أوروبا الشرقية، وهدَّدت بِرد عسكري «غير محدد» إذا لم تلبى هذه المطالب بالكامل.

إلا أن انتهى الأمر بإعلان بوتين بشن عملية عسكرية في شرق أوكرانيا، وذلك في خطابه قبل الساعة الخامسة صباحًا بتوقيت أوكرانيا في 24 فبراير الماضي، كما صرح أيضًا أنَّ روسيا تسعى إلى «نزع السلاح» من أوكرانيا ودعا الجنود الأوكرانيين إلى إلقاء أسلحتهم، إذًا لم تكن الحرب مفاجئة بل كانت معروفة لدى الجميع لأنه سبق حدوثها شواهد وأدلة كثيرة على نية روسيا بدخول أوكرانيا عسكريًا لذلك تُعدُ تلك الحرب بجعة بيضاء.

ختام:

وختامًا لهذه النظرية الشيقة فإن “نسيم نكولا” ينصح بأنه من الضروري توقع كل الاحتمالات والاستعداد لها جيدًا، وعدم الاكتفاء بتجارب وأحكام الماضي لتوقع المستقبل لأن “بجعة واحدة سوداء كفيلة بإنهاء فرضية استمرت مئات الأعوام بأن كل البجع أبيض اللون”.

طالع المزيد:

 

زر الذهاب إلى الأعلى